الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اختيار الرسل اصطفاء من الله لهم:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس السابع والثلاثين من دروس العقيدة.
وصلنا قبل رمضان إلى موضوع صفات الرسل عليهم الصلاة والسلام.
أيها الإخوة؛ بما أن الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه مكلفون برسالة عليهم أن يُبلغوها، ولاسيما الرسل فلابُدَّ من صفات تتوافر فيهم، فالرسل قبل كل شيء مُصطَفون من قِبل الله جلَّ وعلا بالوحي، أي الرسالة اصطفاء من الله سبحانه وتعالى، اصطفاء لأهلية في الرسول.
شيء آخر؛ بما أنَّ الرسول مُبلِّغّ عن الله علوم شريعته وأحكامه لخلقــه هو مصطفى بالوحي ومُبلِّغ للناس، وبما أنَّ الرسول قد حمل مهمة الدعوة إلى الله، وإلى صالح العمل بالأسلوب الحكيم، ولأن الرسول مُصدَّق من قِبل الله جلَّ وعلا بالمعجزة، المعجزة تصديق من الله لرسوله، وبما أنَّ الرسول قدوة حسنة يُتأسى بها في عمله وخُلُقه، ويُهتدى بهديه، وبما أنَّ الرسول مُطَاع بإذن الله مُتَّبع بأمر الله، وبما أنَّ الرسول قائد لأمته ومُدبِّر لسياستها الدينية والدنيوية، لهذه الأسباب كلها، مُصطفى بالوحي مُبلِّغ عن الله علوم شريعته وأحكامه لخلقه، حمل مهمة الدعوة إلى الله، وإلى صالح العمل بالأسلوب الحكيم، مُصدَّق من قِبَل الله بالمعجزة، القدوة الحسنة التي يُتأسى بها في عمله، وفي خُلُقه، ويُهتدى بهديه، لأنه مُطاع بإذن الله، مُتبع بأمر الله، لأنه قائد أمته، ومُدبّر أمر سياستها الدينية والدنيوية، لهذه الأسباب كلها يجب أن تتوافر في الرسول صفات لابد من توافرها.
من هذه الصفات علو الفِطرة، وصحة العقل، والصدق في القول، والأمانة في تبليغ ما عُهِد إليه تبليغه، والعصمة من كل ما يُشوّه السيرة البشرية، وسلامة البدن مما تنبو عنه الأبصار، وتنفر منه الأذواق السليمة، وقوة الروح بحيث لا تستطيع نفس إنسانية أو جنية أن تسطو عليه سطوة روحانية، لأن الجلال الإلهي يُمده دائماً بمدد منه، لهذه الأسباب كلها لأنه مُبلِّغ ولأنه قدوة ولأنه مصطفى ولأنه مصدق ولأنه مطاع ولأنه مُتَّبع، لهذه الأسباب كلها يجب أن تكون فطرته عالية، وعقله صحيحاً، وقوله صادقاً، وتبليغه أميناً، ويجب أن يكون معصوماً من كل معصية أو زلل، ويجب أن يكون سليم الخلق، كامل الخلق لئلا تنبو عنه الأبصار، ويجب أن يكون قوي الروح، هذه الصفات إن شاء الله تعالى سوف نُفصّل بها واحدةً واحدة، لكن فيما عدا ذلك فهو بشر، كيف هو بشر؟ يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ آذَيْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَصَلاةً. ))
من صفات الأنبياء التي تَمُت إلى البشرية بصلة أنهم يأكلون ويشربون، ما أروع القرآن حينما وصف بشرية سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، كان:
﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)﴾
فالذي يأكل الطعام ليس إلهاً، إنه مُفتقر إلى تناول الطعـام، نحن جميعاً مفتقرون إلى شرب كأس ماء، مفتقرون إلى تناول الطعام، كان ﴿يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ مُفتقر إلى الطعام ومُفتقر إلى كسب الطعام، أنت مفتقر إلى الطعام شيء جميل، لكنك إذا قعدت في البيت سوف تجوع لابُدَّ من أن تخرج من البيت لتكسب رزقاً تشتري به طعاماً، وهاتان الصفتان كافيتان لأن تكون بشراً ولست فوق البشر، الأنبياء بشر، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)﴾
أشهد أن لا إله إلا االله وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، فيما عدا هذه الصفات صحة الفطرة، صحة العقل، الصدق، الأمانة، العِصمة، سلامة الخلق، قوة الروح، هو بشر من علائم بشريته أنه يأكل ويشرب وينام، أي يحتاج إلى النوم، أخي نائم؟ طبعاً أنا بشر أريد أن أنام، لماذا نائم؟ طبعاً أنا بشر أريد أن أنام، لماذا نائم؟ أريد أن أنام طبعاً من أنا؟ كل إنسان يحتاج إلى النوم، النوم سلطان كما يقولون، لكن من قضى عمره بالنوم أتى يوم القيامة مفلساً، أمّا ينام ويتزوج، هناك بنفسه حاجة إلى نصفه الآخر كما يقولون، هذه حاجة ثابتة في الأنبياء أيضاً، النكاح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويمرض، المرض من صفات البشر، ومن علائم العبودية لله عز وجل، يمرض، ويتزوج، وينام، ويأكل ويشرب، وقد ينسى:
(( عن عبد الله بن مسعود: إنما أنا بشرٌ أنسى كما تنسَون، فإذا نسِيَ أحدُكم فلْيسجُدْ سجدتَين وهو جالسٌ. ))
[ صحيح الجامع: حكم المحدث : صحيح ]
من هنا كان سجود السهو، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا. ))
لكن هنا يوجد نقطة دقيقة جداً إنه قد ينسى فيما لا علاقة له بتبليغ ما أمره الله أن يبلغه، لا ينسى أوامر التبليغ، هذه تتناقض مع عصمته بعد ذلك، ينسى في الأمور اليومية أما في أمور التبليغ فلا ينسى، قال تعالى:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)﴾
وقد تمتد إليه أيدي الظلمة، ألم يَرِد في القرآن الكريم أنّ الكفار قد اعتدوا على الأنبياء فقتلوهم، قال تعالى:
﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)﴾
لأنهم بشر، إلا إذا عصمه الله عزّ وجل من أن يُقتل بنص من القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾
أكثر المفسرين على أنه معصوم من أن يغتاله بشر، طبعاً هذه الصفات التي تمُتّ إلى بشريته بصلة لا تُنقص من قدره كنبي، ولا تُقَلل من مكانته عند الله عز وجل، أنت بشر تجوع وتعطش وتتعب وتنام وتحتاج إلى من يُكمِّل نصف دينك وتنسى وتغضب ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ)) هذه الصفات تؤكد في الأنبياء عبوديتهم لله عزّ وجل.
صفات المرسلين عليهم الصلاة والسلام بالتفصيل:
لو أردنا أن نأخذ الصفات التي يجب أن تتوافر في الرسل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان في مقدمة هذه الصفات الفطانة، الفطانة بمعنى الذكاء، أي ما كان الله عزّ وجل ليُرسل رسولاً إلى خلقه لا يتصف بالفطانة، فالفطانة صفة ملازمة للأنبياء، أي بعلم النفس لو أخذنا مئة رجل أو مئة إنسان؛ تسعون بالمئة منهم لو فحصنا ذكاءهم بروائز دقيقة لنالوا علامة المئة، وعلامة المئة هي علامة الخط العريض في المجتمع، لكن خمسة بالمئة منهم ترتفع علامتهم إلى مئة وأربعين أو أكثر، هؤلاء النوابغ أو العباقرة، وخمسة في المئة تقل علامتهم في الذكاء عن ثمانين أو عن سبعين وهؤلاء يوصفون بأنهم أغبياء.
على كلّ الأكثرية في المجتمع تتصف بالتوسط في الذكاء، والأقلية تتصف بارتفاع مستوى الذكاء، والأقلية الثانية تتصف بانخفاض مستوى الذكاء، لكن الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه يتصفون بالضرورة جميعاً بالفطانة، أي إذا أردتم تعليلاً مادام الله سبحانه وتعالى قد اصطفاهم، وما دام الله سبحانه وتعالى قد كلّفهم تبليغ رسالاته، بما أنَّ الله سبحانه وتعالى قد كلفهم بنشر دينه فلابد من أن يعطيهم مع هذا التكليف ما يُعينهم على نشر الرسالة، وأول هذه الصفات صفات الفطانة، ما اتّخذ الله ولياً جاهلاً لو اتّخذه لعلمه، فحمْل رسالة علمية لو كان بأصحابه من هو أذكى منه، كيف يستطيع أن يقود أناساً أذكى منه؟ هذه على مستوى حياتنا اليومية مستحيلة، لو عيّنت إنساناً أقل ذكاء ممن حوله، أي لا يستطيع أن يقودهم، أي يُربكونه، لابد من أن يكون النبي الرسول أعلى كل أصحابه ذكاءً حتى يستوعبهـــم، وحتى يستطيع توجيههم، وحتى يعرف إمكاناتهم، فلذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يجمع كل صفات الكمال، فهذا سيدنا خالد كان شجاعاً، إذاً هو سيف الله، وهذا سيدنا أبو عبيدة كان أميناً، إذاً أبو عبيدة أمين هذه الأمة، وكان سيدنا علي مدينة العلم، وكان سيدنا معاذ، والله يا معاذ إني لأحبك، كان محبوباً، وكان سيدنا سعد مُضحياً:
(( عن عليّ بنُ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه: ما سمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُفَدِّي أحدًا بأبويْه"، أي يقولُ له: فِداكَ أبي وأُمِّي، إلَّا لسعدٍ" وهو ابنُ أبي وقَّاصٍ، فإنِّي سمِعْتُه يقولُ يومَ أُحدٍ: ارْمِ سعدُ فِداك أبي وأُمِّي.))
[ أخرجه الشيخان عن علي بن أبي طالب ]
كل صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتصف بصفة يتميز بها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام جمع كل صفات الكمال، قال الشاعر:
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النسـاء
خُلقــــت مبرأً من كل عيـب كأنك قد خُلِقت كما تشــاء
فإن تفق الأنام فأنت منهــــــم فإن المسك بعض دم الغزال
محمدٌ بشرٌ وليس كالبشـــر لأنه ياقوتة والناس كالحجر
لو أن هذا النبي العظيم عليه أتمّ الصلاة والتسليم قيست إمكاناته الفكرية بمقاييسنا المعاصرة لكان من أعلى البشر إدراكاً، وفطانة، وحسن تصرف، واستيعاباً، وحفظاً، ومحاكمة، وقياساً، وإلقاءً، أساساً لا يوجد إنسان يستطيع أن يقود أناساً إلا أن يكون على مستوى عالٍ من الذكاء، إذا إنسان محدود لا يستطيع أن يقود نفسه أساساً حتى يقود الآخرين، إنسان يكون له تأثير على أشخاص بإمكانات ضعيفة هذا شيء مستحيل، هذا مثل قريب، من منا يستطيع أن تُتلى عليه سورة البقرة فيحفظها من أول مرة؟ هذا فوق طاقة البشر، من منا يستطع أن تُتلى عليه البقرة وآل عمران فيحفظهما توّاّ؟ النبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحفظه فوراً، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ هذا أعلى مستوى في الذكاء، هذه الذاكرة التي لا تنسى، من يقدر حفظ القرآن؟ حَفَظَة القرآن، يقول لكَ: أخي يوجد متشابهات، والله احترت غفور رحيم أم رحيم ودود، تجده أثناء الحفظ أو أثناء القراءة أو أثناء الصلاة يقع بإشكالات، يا ترى حتى إذا جاؤوها فُتحت أم وفُتحت؟ يوجد آية فُتحت وآية وفُتحت يخلط بينهما، يا ترى وفُتحت لأهل الجنة أم لأهل.. يخلط بينهما، أمّا النبي عليه الصلاة والسلام ما نسي شيئاً من كتاب الله أبداً، هذه من فطانته عليه الصلاة والسلام.
وبهذه الفطانة يعرف ما أنزل إليه، يعرف المضمون، قد يقول أحدكم: أين تفسير كتاب الله؟ ليت النبي عليـه الصلاة والسلام فسّر كتاب الله، لقد فسره، أحاديثه الشريفة تفسير دقيقٍ دقيق لكتاب الله عز وجل، النبي عليه الصلاة والسلام بيّن للناس ما نُزِّل إليهم عن طريق السنّة المطهرة التي هي أصلٌ ثانٍ من أصول الشريعة الإسلامية، قال الله:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
إذاً السنّة المطهرة وحي غير متلو، فالنبي الكريم يجب أن يعرف مدلولات الآيات الكريمة بشكل دقيقٍ دقيق حتى يفسرها، أحكام العدّة، أحكـام الطلاق، أحكام الزواج، أحكام الصلاة، أحكام الصيام، أحكــام الحج، أحكام الزكاة، أحكام البيوع، هذه التفصيلات الشديدة، يقول لك: ثمانون حديثاً في البيوع مأخوذون من آية واحدة، قال الله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)﴾
التراضي صار له أحكام، لا يكون فيه تدليس، لا يكون فيه غش، لا يكون فيه غبن بالسعر، لا يكون فيه غبن بأشياء أخرى، لا يكون فيه جهالة بالثمن، جهالة بالقيمة، التسليم، أحاديث كثيرة جداً في البيوع كُلها مستنبطة من آية واحدة، أحاديث الصيام مُستنبطة من آية الصيام، أحكام المواريث.
إذاً يجب أن تكون فطانته مُعِينة له على فهم هذا الوحي الذي جاءه من عند الله، ويجب أن تكون فطانته مُعينة له على حفظ ما نُزّل إليه من كلام الله، ويجب أن تكون فطانته وسيلة لنقل هذه الرسالة وهذا الكتاب الكريم إلى الناس، ويجب أن تكون فطانته وسيلة لإلقاء الحق بحكمةٍ بالغة، الآيات التي تشهد له بالفطانة، يقول الله عز وجل:
﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)﴾
العوام يقولون أحياناً: يفهم على الطائر، أي قد يقول لك ما تقول قبل أن تقول، الأذكياء من علامتهم أنك إذا أردت أن تقول شيئاً يقول لك: أنت تقول كذا وكذا، تريد أن تقول كذا وكذا، أي كأنه يسبقك بالقول، فربنا سبحانه وتعالى وصف فطانته بأنها من نوع:
﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)﴾
هذه إشارة من الله عزّ وجل إلى فطنته أي فطانته، وفي آية أخرى:
﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)﴾
أي كأنه فَهِمَ على الله عزّ وجل كل ما يريد، لذلك ربنا عزّ وجل قال له: انتظر، اصبر، حينما تنزل الآية بلغها للناس، ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ .
مشاهد من فطنته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه:
له مواقف ذكية جداً اللهم صلّ عليه،
(( مرة سأله أحد أصحابه:
ماذا يُنجّي العبــد من النار؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إيمان بالله قلتُ: يا رسولَ اللهِ! إنَّ مع الإيمان عملًا؟ قال: يرضخُ مما رزقه اللهُ قلت: يا رسولَ الله أرأيتَ إن كان فقيرًا لا يجد ما يرضَخُ به؟ قال: يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إن كان عيَيًّا لا يستطيع أن يأمرَ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ؟ قال: يصنعُ لأخْرقٍ، قال: أرأيت إن كان أخرقَ لا يستطيعُ أن يصنعَ شيئًا؟ قال: يُعينُ مغلوبًا، قال: أرأيتَ إن كان ضعيفًا لا يستطيعُ أن يعينَ مغلوبًا؟ كأن النبي ضاق به ذرعاً، قال: ما تريدُ أن يكونَ في صاحبِك من خيرٍ؟ يمسِكُ عن أذى الناسِ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ إذا فعل ذلك دخل الجنَّةَ؟ قال: ما من مسلمٍ يفعل خَصلةً من هؤلاءِ إلا أخذَتْ بيدِه حتى تُدخِلَه الجنَّةَ. ))
[ صحيح الترغيب: حكم المحدث:حسن لغيره ]
أي كل خصلة إذا طبقتها تنقلك إلى أعلى منهـــا، وهكذا إلى أن تدخل الجنة، يوجد توجيهات نبوية دقيقة جداً، مواقف في منتهى الفطانة، حينما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أن الأنصار قد وجدوا عليه في أنفسهم، الآن هو قائد، وعقب معركة، وهناك أناس فُتنوا أي غضبوا، وجدوا عليه في أنفسهم، فقال عليه الصلاة والسلام لزعيمهم سيدنا سعد بن عبادة، قال: يا سعد مقالة بلغتني عنكم، قال: نعم، قال يا سعد: أين أنت من قومك؟ أراد أن يعرف موقف زعيم الأنصار، أهو منهم؟ أهو معهم؟ موافق لهم أم منفصل عنهم؟ فقال هذا الصحابي: ما أنا إلا من قومي، أنا واحد منهم، أي هو معهم، فقال: اجمع لي قومك، جمعهم له، وقف النبي عليه الصلاة والسلام فيهم خطيباً، قال:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي وَمَا أَنَا قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأنْصَارِ قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ -خبير، عالم نفس، هم يقولون في أنفسهم: نحن نصرنا رسول الله، آويناه حينما هاجر إلينا، نصرناه، أغنيناه-أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ-تكلم ما في أنفسهم، فإذا قلتم هذا صَدقتم وصُدِّقتم-أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ -ذكرهم بفضله عليهم-أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ أَفلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الانْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ -ألا يكفي أنا معكم، أي آثرتم الدنيا-فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا. ))
أي بكوا بغزارة، حتى صار الدمع يتساقط من لحاهم، هذا موقف في منتهى الفطانة، أي كادت أن تحدث فتنة فطوّقها اللهم صلِّ الله عليه وأنهاها، إذاً كان فطناً، كان إدراكه من أعلى مستوى، ومعالجته للأمر بأعلى مستوى:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني؟ قال: لا تغضب، فردّد، قال: لا تغضب. ))
أي كأنه أدرك أنه يعاني من الغضب الشديد، يقول له آخر: عظني؟ يقول له: قل آمنت بالله ثم استقم، أنت استقم، كل صحابي جليل أو كل رجل سأله يعطيه ما يناسبه، هذه من علائم الفطنة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يتمتع بها.
صور من مواقف الأنبياء الفطنة أثناء حوارهم مع المعاندين للحق:
أيضاً قال تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ هذه من دلائل فطنته عليه الصلاة والسلام، الأنبياء أيضاً فطنون، فسيدنا إبراهيم:
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)﴾
أوتي الحجة، أنت هل تستطيع أن تناقش الآن خصماً عنيداً؟ هل تصمد في نقاش دقيق جداً من شخص مثقف ثقافة عالية يريد أن يُطفئ نور الله عزّ وجل؟ فإذا كان عندك حُجة قوية فهذه صفة طيبة في المؤمن، ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ فإذا كنت مؤمناً صادقاً فيجب أن يكون معك شيءٌ من هذه الحُجة، معك حُجة قوية، فالنمرود مثلاً قال له: من ربك يا إبراهيم؟ فقال سيدنا إبراهيم:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)﴾
أعطاه صفة دقيقة، ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ قال النمرود: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ أنا أحضر سجيناً أعفو عنه، كان محكوماً بالإعدام أعفو عنه أحييتهُ، أُحضر إنساناً وأقوم بقتله، كان من الممكن أن يقوم سيدنا إبراهيم بتفنيد هذه الحُجة، أي أنت لا تُحييه من العدم، أي إذا عفوتَ عنه ليس هذا حياةً بالمعنى الدقيق، لكن من فطانته عليه الصلاة والسلام ما أراد أن يدخل مع النمرود في نقاش سفسطائي تركه وقال له: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ إذا أردت أن تُناقش إنساناً لا تبدأ بحُجة ضعيفة مُركبة تحتاج إلى توضيح:
﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)﴾
أي ضاقوا به ذرعاً، كأنه غلبهم بالحجة لم يتمكنوا، أي ليس من السهل أن تواجه قوماً بأكملهم بحجة ناصعة وتغلبهم بها، فهذه الصفة صفة الفطنة أو الفطانة وبالتعبير الحديث الذكاء أو سرعة الفهم، دقة المحاكمة، حُسن التكيّف، أن تصـل إلى كل أهدافك بأيسر السبل، أن تحقق أعلى مردود بأقل جهد، هذه من تعريفات الذكاء، أن تأخذ أكبر مردود بأقل جهد، أو أن تُحسن التكيف مع المجتمع، أو أن تدرك إدراكاً دقيقاً، محاكمةً مُحْكمة، أن تملك حكمة في تصريف الأمور، هذه كلها من لوازم أو من دلائل الذكاء والفطنة والفطانة.
الله عز وجل إذا بعث رسولاً هل يجعله أقل ذكاء من أذكى رجل؟ مستحيل، وبالمناسبة صعب إنسان أقل ذكاء يقود أكثر ذكاء، لا يستطيع أن يقوده، تجده دائماً يكشفه، أحياناً يُفند له أغلاطه، أحياناً يُشوّه سمعته أمام الآخرين، أحياناً يحجمه يطرح عليه سؤالاً لا يعرفه تجده أصبح صغيراً، فكيف يقود إنسان أمة أو أصحاباً كراماً هم أكثر ذكاء منه؟ كان صلى الله عليه وسلم سيد العلماء، وكان جميع أصحابه الكرام يطأطئون رأسهم في مجلسه تعظيماً له، بالحق وليس بالقهر لما عنده من صفات.
الصفة الثانية من صفات الرسل عليهم السلام العصمة، وحيث ثبت أن الرسول أي رسول هو المثل الأعلى لأمته، الذي يجب الاقتداء به في اعتقاداته وأفعاله وأقواله وأخلاقه، وهو الأسوة الحسنة بشهادة الله له، لذلك وجب أن تكون اعتقاداته وأفعاله وأقواله وأخلاقه الاختيارية موافقة لطاعة الله عزّ وجل، ووجب ألا يدخل في شيء من اعتقاداته وأفعاله وأقواله وأخلاقه معصية لله تعالى، أي نبي قدوة حسنة، مثل أعلى، أسوة صالحة، هل يكون في معتقداته أو بأقواله أو بأفعاله أو بأخلاقه خطأ أو معصية؟ هذا مستحيل، لأنه قدوة، مُكلّف برسالة، مكلّف أن يقتدي الناس به، الناس مكلفون باتباعه في أقواله وأفعاله وأخلاقه ومعتقداته.
الله سبحانه وتعالى أمر الأمم بالاقتداء برسلهم، فإذا أمكن أن يفعل الرسل المعاصي كان معنى الأمر أن يتخذوهم أسوة في المعاصي، وهذا مستحيل في حقّ الله سبحانه وتعالى، ليس الرسول يرتكب معصية ويأمر الناس أن يتابعوه، أن يقتدوا به، أن يتبعوه، مستحيل هذا، صار هناك أمر بالمعصية، وإن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بالفحشاء، قال تعالى:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
فنحن جميعاً مأمورون باتباع الرسول، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام لو أنه –هذه لو حرف امتناع لامتناع- يعصي ربه كيف نتبعه؟ صار اتباعنا له في معصية الخالق، والله سبحانه وتعالى يستحيل في حقه أن يأمرنا بمعصية، شيء منته أمره، في معتقداته وفي أفعاله وفي أقواله وفي أخلاقه مستحيل أن يعصي الله عز وجل، فعصمة الأنبياء عن أن يعصوه في معتقداتهم وأخلاقهم وأقوالهم وأفعالهم، لذلك تعريف السنّة المطهرة ما صحّ عنه من أقوال وأفعال وإقرار.
أي إذا كان شخص فعل أمامه شيئاً فسكت النبي عليه الصلاة والسلام سكوتهُ يُعدّ إقراراً، وفِعلُ هذا الصحابي من السنة المُطهرة لأنه سكتَ عنه، النبي عليه الصلاة والسلام لا يُعقل أن يسكت عن خطأ، مادام الله عز وجل قد أمرنا باتباع رسله فهل يعقل أن يأمر الله عبداً بشيء في حال ينهاه عنه؟ صار هذا تناقضاً، لأن الأمر بالشيء في وقت النهي عنه تناقض كبير، وهذا يستحيل في حقّ الله عز وجل، فالعصمةٌ إذاً بهذا المعنى حِفظُ أوامر الله تعالى من مخالفتها، وحفظ نواهيه من الوقوع بها، لا يُعقل أن يعصي أمراً ولا أن يفعل معصيةً، ما قال الله له: افعل، لا يعقل ألا يفعله، وما قال له: لا تفعل، لا يُعقل أن يفعله، هذا معنى أولي مبسّط من معاني العصمة، الدليل:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾
أسوة حسنة في مطعمه، ومشربه، ومسكنه، وملبسه، وزواجه، وعلاقته بجيرانه، في سلمه، وحربه، في حلّه وترحاله، في دعوته، في خطابته، في توجيهه، في صلاته أسوة حسنة، وأما في حقّ جميع الرسل، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)﴾
هذه ﴿فِيهِم﴾ تعود على الرسل جميعاً.
آية ثالثة تأمرنا أن نتبع الرسل فهم أسوة حسنة:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
من الأدلة القاطعة على معنى العصمة التي هي صفة أساسية من صفات الأنبياء قول الله عزّ وجل:
﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)﴾
هذه ﴿مَا تَقَدَّمَ﴾ بالعفو عنك، ﴿وَمَا تَأَخَّرَ﴾ بوقايتك من الوقوع به، فإذا أعطيت إنساناً مصباحاً وضّاء وأمرته أن يسير في طريق مظلمة ذات وعورة وحفر وعقبات، إن هذا المصباح يقيه الوقوع في الحفر، ويقيه الارتطام بالعقبات، فكأنك بهذا المصباح جعلته لا يقع، فهذا معنى قول الله عزّ وجل: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ لأنكَ مستنيرٌ بنور الله عزّ وجل لن تقع في ذنبٍ في المستقبل.
أيضاً من لوازم هذه العصمة التي هي صفة أساسية بحقّ الأنبياء والرسل العصمة عن الكتمان والتحريف، كتمان الحق معصيةٌ في الدعوة إلى الله عزّ وجل، والتحريف أيضاً معصيةٌ في الدعوة إلى الله عزّ وجل، النبي عليه الصلاة والسلام معصوم عن الكتمان، وعن التحريف، وعن الخطأ والغلط والنسيان فيما أمره الله بتبليغه للناس.
في التبليغ لا يوجد خطأ، ولا يوجد نسيان، ولا يوجد غلط، ولا يوجد تحريف، ولا يوجد كتمان، هذه أيضاً من لوازم العصمة التي هي صفة أساسية، قال: لأنه لو لم يكن معصوماً عن ذلك لم يكن أهلاً للاصطفاء بالرسالة، ولأثر ذلك في أصل مهمة البعثة، ولانعدمت الثقة بما يُبلّغه عن الله من شرائع وأحكام وأخبار وغيرها، هذا على مستوى اللغة العربية إذ كان الإنسان حُجة في اللغة، وكان من عادته الغلط في النحو والصرف، هل عاد حجة؟ ما عاد حُجّة، لأنه لا يغلط صار حجة، فإذا عُرِف عنه الغلط والنسيان والخطأ في إلقائه، في لغته، في حديثه، فصار كلامه غير حُجة، نُفيت عنه صفة أن يُحتجَّ بِهِ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يعتقد عقيدة تُخالف الحق الذي أمرَ الله رسله أن يؤمنوا به، أي النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديثه لا يُكّذب الله عزّ وجل، كيف؟ إذا الله عز وجل أمر بشيء، هل يُعقل أن يكون أمره صلى الله عليه وسلم مخالفاً لأمر الله عزّ وجل؟ مستحيل، إذاً على مستوى العقيدة لا يمكن أن يعتقد النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً مخالفاً لما جاء في القرآن الكريم، ولا يمكن أن تتعرض تبليغات الرسول التي يبلغها عن ربه للكتمان أو التحريف أو الخطأ أو الغلط أو الكذب، لأن هذا يتنافى مع أصل النبوة ومهمة الرسالة، أي تبليغاته لا يمكن أن تتعرض للكتمان ولا للتحريف ولا للخطأ ولا للغلط ولا للكذب، والدليل أن الله عزّ وجل قيّض رجالاً غيورين، ثقاة، عدولاً، أمضوا حياتهم كلها في تتبع الحديث الصحيح وتثبيته، ونفي وتجريح الحديث الموضوع وإبعاده، هذا جهد كبير مشكور الله سبحانه وتعالى قيض هؤلاء لسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، لذلك البخاري ومسلم كتابان يُعدّان من أصحّ الكتب بعد كتاب الله جلّ وعلا، ولا يمكن أن تتعرض أفعال الرسول وأقواله وسيرته للمعاصي سواءً أكانت كبيرة أم صغيرة، لأن هذا ينافي كونه أسوة حسنة، ويتعارض هذا مع الأمر بالاقتداء به واتباعه، لو كان كذلك لما كانت أفعاله وأقواله حجة شرعية على أمته، ولا يمكن أن تتعرض صفات الرسول النفسية وأخلاقه القلبية لما فيه معصية الله عز وجل سواءً أكانت كبيرة أو صغيرة كالحقد والحسد والعزم على ارتكاب المعصية وتمني ارتكابها، أي هناك أحاديث ضعيفة أنه حينما شاهد عمه الحمزة وقد مُثّل به أنه نوى أن ينكلّ بهم، والحديث الصحيح قوله:
(( حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيَّتَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَيَدْلَعُ لِسَانَهُ، فَلَا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي، وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا) .قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: (إنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمُّهُ) . ))
[ وهذا إسناد ضعيف ، محمد بن عمرو بن عطاء من صغار التابعين ، وقال ابن كثير رحمه الله : " وَهَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ ، بَلْ مُعْضَلٌ " انتهى من "البداية والنهاية ]
لا يمكن أن يرتكب معصية ولا أن يهم بمعصية، إذا قلت لشخص: خذ هذا المبلغ ففكر قليلاً ثم قال لك: هاته، ثم قال لك: لا أريده، كونه تردد وقع في معصية أيضاً، كونه تردد، فالأنبياء لا يفعلون المعاصي ولا ينوون أن يفعلوها مستحيل، هذا بحقهم مستحيل.
وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى صفات الصدق في الرسل عليهم الصلاة والسلام.
الملف مدقق