- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (010)سورة يونس
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
في الحياة الدنيا حق وباطل فقط ولا ثالث لهما :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي في سورة يونس إلى قوله تعالى : وفي عقيدته إن لم يكن مع الحق فهو مع الباطل ، ليس هناك مرتبةٌ ثالثة ، حق أو باطل ، وليس في الآخرة مرتبةٌ ثالثة ، فو الذي بعث محمداً بالحق ما بعد الدنيا من دار إلا الجنَّة أو النار ، أي الموقف حاسم ، يجب أن تتخذ قراراً مصيرياً ، إما أن تكون مع الحق ، وإن لم تكن كذلك فلابدَّ من أن تكون مع الباطل ، إما أن تحبَّ المؤمنين ، وإن لم تكن كذلك فسوف تحبُّ الفاسقين ، إما أن تكون سعيداً ، وإن لم تكن كذلك فلابدَّ من أن تكون شقيَّاً..
(( عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة ، فقال :
ثمن الحقيقة التجرُّد عن الهوى :
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2) ﴾
﴿
لذلك :
إذاً آيةٌ خطيرة من أمَّهات الآيات :
الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف :
الآن :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
افعل ما شئت ، كلُّه مسجَّلٌ عليك ، كُلْ من أموال الناس ما شئت أو ترفَّع عنها ، انظر إلى الحرام ما شئت أو غُضَّ بصرك ، قل الصدق أو اكذب ، افعل ما شئت ، كلُّه مسجَّلٌ عليك ، أنت في دار عمل ، وسوف تَرِدُ دار الحساب والشقاء ، وسوف ترد دار الجزاء ، لذلك قالوا : الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف ، للمؤمن ، ودار عذابٍ لغير المؤمن..
إذا دخل إنسان إلى بيت فخم جداً ربع ساعة ، هل يشعر أن هذا البيت له ؟ لا ، إنه جميل ، ولكنه ليس له ، نحن في دارٍ مؤقَّتة ، نحن مثلُنا كمثل راكب ناقةٍ جلس في ظل شجرةٍ فاستراح قليلاً ثم عاد وركب ومشَى ، كن في الدنيا كأنك غريب ، إذاً : إعادة الخلق من أجل تحقيق العدالة .. وكما قال الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه : الغنى والفقر بعد العرض على الله.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
﴿
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾
إذاً : الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، بدأه ، وعرفنا من خلال بدئه أسماءَه الحسنى ، وسوف يعيده ، وسيتحقَّق من إعادة الخلق تتحقق عدالته المطلقة .
لله في خلقه كتابان الكون والقرآن :
ثم يقول الله عزَّ وجل :
﴿ خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) ﴾
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ﴾
﴿
أي كأن الذي ظهر أن هذا القرآن الكريم يعدل الكون ..
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) ﴾
صار عندنا كما قال بعض المصلحين : إن لله في خلقه كتابين الكون والقرآن ، الله سبحانه وتعالى خلق وهدى ..
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50) ﴾
مرَّ معي أن سمكاً اسمه سمك السلمون ، يتوالد في أعالي الأنهار في أمريكا الشماليَّة والجنوبيَّة ، وينتقل برحلةٍ شاقَّةٍ شاقة إلى المحيط الأطلسي ، إلى سواحل فرنسا ، ثم يعود أدراجه إلى مسقط رأسه هناك ، وضع مركزُ بحوث لبعض الأسماك أو لأعدادٍ وفيرة منها قِطعاً معدنيَّة مسجل عليها تاريخ ، هذه الأسماك بعد أشهر عادت إلى مسقط رأسها ، الشيء الذي يُحَيّر العقل أن هذه الأسماك وهي في المحيط الأطلسي كيف عرفت طريق العودة إلى مسقط رأسها ؟ لو أنها انحرفت درجة واحدة لجاءت في مصبِّ نهرٍ آخر ، لو أنَّها انحرفت درجتين لجاءت في أمريكا الجنوبيَّة بدل الشماليَّة ، هل معها بوصلة ؟ معها خرائط ؟ معها إحداثيَّات ؟ هل معها اتصال لاسلكي مع مراكب للتوجيه البحري ؟ كيف عرفت طريقها ؟ بعض العلماء أخذوا بعض الأسماك وحملوها إلى مصبِّ بعض الأنهار في أوروبا وهي صغيرة ، حينما كبرت سارت إلى الأطلسي ، وعادت إلى أمريكا ، لا يزال هذا سرَّاً ، ما الذي يسيِّر هذه السمكة ؟ شيء يعجز عنه علماء البحار ، يعجز عنه المتخصِّصون ،
يعجز عنه ربابنة السفن ، وأنت على سواحل فرنسا تحت البحر لا ترى شيئاً ، تتجه إلى مصبِّ الأمازون ؟! هذا من هداية الله عزَّ وجل ، هذه الظاهرة لا تُفَسَّر إلا بالقرآن ..
الحيوان هداه إلى طعامه ، هداه إلى شرابه ، هداه إلى دوائه ، قد يُصاب الحيوان بمرض ، يذهب إلى البستان يبحث عن حشيشةٍ بعينها فيأكلها فيشفى ، هداه إلى طعامه ، هداه إلى شرابه ، هداه إلى طريقة توالده ، هداه إلى أنثاه ، هداه إلى كل شيء ، لكن الإنسان أعطاه الفكر ، وبالفكر ارتقى الإنسان ، والإنسان هداه إليه ، الحيوان هداه إلى طعامه وشرابه ، لكن الإنسان هداه إليه عن طريق ماذا ؟ عن طريق الكون ، ثم عن طريق ماذا ؟ عن طريق الأنبياء ، وعن طريق الكتب ، وعن طريق ورثة الأنبياء - الدعاة إلى الله - وعن طريق المصائب ، وعن طريق الضيق ، وعن طريق الغنى ، وعن طريق الفقر ، وعن طريق المرض ، وعن طريق الصحَّة :
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) ﴾
والله شديد المحال ، إذاً :
الابتعاد عن معصية الإله خالق كل شيء :
من خلق السمع ؟ من خلق الشم ؟ من خلق ربع مليون شعرة في رأسك ، لكل شعرة وريد وشريان ، وعصب وعضلة ، وغدَّة دهنيَّة ، وغدَّة صبغيَّة ؟ هل تعرف من خلق في أنفك عشرة ملايين عصب شمّي ؟ هل تعرف من شقَّ هذه العين وجعل في شبكيَّتها مئة وثلاثين مليون مخروطاً ؟ هل عرفت من خلق الأذن ؟ خلق أذنين لتعرف مصدر الصوت من الصيوان ، إلى القناة الأذنيَّة ، إلى غشاء الطبل ، إلى الأذن الوسطى ، إلى الداخليَّة ، إلى قنوات التوازن ، من خلق العظام وأعطاها حداً ، لو أن الأسنان تنمو بازدياد ماذا يحدث ؟ هو القابض والباسط ، أعطى هذه الأسنان نمواً ، ثم أوقفها عند حدِّها ، أعطى هذه العظام نمواً ، ثم أوقفها عند حدِّها، من أمر العظام أن تقف عن النمو ؟ بعض الأطبَّاء قال لي : خط وهمي مرسوم في الفراغ ، إذا العظم وصل إليه يقف عن النمو ، شيء مضحك والله ، خط وهمي مرسوم في الفراغ إذا وصل نمو العظم إليه توقَّف عن متابعة النمو ، لا ، هذا غلط ، الصواب القابض والباسط ، الجامع والمانع ، فالإنسان إذا تأمل في هذا الكون يرى :
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد
***
والله كل شيء كأنه ينطق ويقول : أنا دليلٌ على عظمة الله ، من طعامك ، إلى شرابك ، إلى ابنك ، إلى كأس الماء ، إلى كأس الحليب ، إلى الجبل ، إلى البحر ، إلى السمك ، إلى الطير ..
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد
***
فالله سبحانه وتعالى بقدر ما هو خالق عظيم بقدر ما هو هادٍ حكيم ، هداك في كل شيء ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ
هل تقبلون فيها أنتم ؟ شاب أبوه ملك قال له : يا بني اطلب وتمنَّى ، فقال له : أريد محَّاية حبر، فقط ؟ طلب الدنيا واكتفى بها ، لو طلب يختاً سيعطيه ، لو طلب أكبر قصر سيعطيه إياه ، ولكنَّه طلب محاية ، قلم بيك ناشف فقط ، أكثر لا يريد .
الابتعاد عن الظن لأن معظم الناس عقائدهم وتصوراتهم مبنية على الظن :
أي معظم الناس عقائدهم ظن ، تصوراتهم ظن ، منطلقاتهم ظن ، أهدافهم ظن ، أي يتوهَّم السعادة بالمال هذا ظن ، المال لا يُسعِد ، يتوهِّمها بالنساء ، النساء لا تُسعِد ، يتوهمها بالبيت الفخم ، ربَّ كوخٍ حقير صاحبه أسعد الورى ، اللهمَّ صلِّ عليه كان إذا صلَّى قيام الليل رفعت السيدة عائشة رجليها لأن الغرفة لا تتسع لنومها وصلاته ، ودخل عليه عديُّ بن حاتم فتناول اللهمَّ صلِّ عليه وسادةٍ من أدمٍ محشوَّةً ليفاً ، قال لعدي بن حاتم :
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) ﴾
قال له :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) ﴾
سيدنا الصدِّيق .. جاء سيدنا جبريل وقال للنبي عليه الصلاة والسلام : قل لصاحبك : إن الله راضٍ عليه فهل هو راضٍ عن الله ؟ ، سيدنا الصديق لم يتحمَّل الكلمة ، مجالات الإيمان لا يعرفها إلا من ذاقها ، الإنسان أحياناً يقيم علاقة مع إنسان من طينته ، إنسان يفنى يعتز بهذه العلاقة .
فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميّتُ
عندما يصير للإنسان وجهة إلى الله عزَّ وجل تحدث له صلة حقيقيَّة ، إقبال حقيقي ..
لا يعرف ما نقول إلا من اقتفى أثر الرسول
***
هذا مثل من يقول لآخر : صف لنا طعم العسل ؟ صعب والله ، ذقه فقط ، من ذاق عرف ، استقم استقامة تامَّة ، وقدِّم أعمالاً صالحة لوجه الله عزَّ وجل ، خالصة من كل شائبة ، ثم تعال وقل لي ماذا حدث لك ، تعال وقل لي أي سعادة عشت ؟ وكيف اطمأننت ؟ وكيف نزَّل الله على قلبك السكينة ؟ وكيف يسَّر لك الأمور ؟ وكيف أصلح لك بيتك ؟ وكيف أصلح لك جسدك ؟ وكيف أصلح لك معيشتك ؟ وكيف أكرمك في الدنيا قبل الآخرة ؟
(( أوحى الله تعالى إلى موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك . ))
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ﴾
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) ﴾
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) ﴾
كذلك هذا ظن ، افعل ما شئت فالنبي عليه الصلاة والسلام سيشفع لك ، هكذا تفهم الشفاعة أنت ؟ هذا فهم خاطئ للشفاعة ، الشفاعة حق ، ولكن لها معنى أرقى من هذا ، لا يشفع النبي لمن ترك الحق ، وأدار ظهره له ، لكن من تبع النبي ، من تبع سنَّته يشفع له .
شاب دخل الجامعة يقدِّمون له كتباً وطعاماً وشراباً ومكتبات .
القرآن الكريم كتاب الله ولا يمكن لبشرٍ كائناً من كان أن يأتي بمثله :
أولاً : كلمة
﴿
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
لا تنفي الحدث ، ولكن تنفي الشأن ، أي أبلغ أنواع النفي في كتاب الله صيغة ما كان ، لأنها تنفي الإرادة ، والاستعداد ، والإمكانيَّة ، والشأن ، والرغبة ، والحدث ... مثلاً : شخص يحمل دكتوراه في الرياضيات فقلت له : اثنان و ثلاثة ؟ فسكت ، تقول : لا يعرف ، لا ، نقول لك : ما كان له أن يجهل هذه الحقيقة ، لكنَّ سكوته له معنى ، اثنان وثلاثة لا يعرفها وهو يحمل دكتوراه بالرياضيات ؟ ما كان له إلا أن يعرف ، قال :
أنا في الأسبوع الماضي بحثت عن مثل يوضِّح هذه الفكرة : لو فرضنا أن واحداً لم يرَ طائرة في حياته ، ولا صورتها ، ولا ركب فيها ، ولا يعرف شيئاً عن إمكانيَّاتها أبداً ، لكنه رأى طفلاً قد صنع طائرة من ورق ، وسحبها في الهواء ، دخل هذا إلى محل حدادة عبارة عن مترين بمترين ، قال له صاحب المحل : هذه الطائرة الحديثة الفلانية ، التي تتسع لستمئة راكب نفاثة ، أنا أصنعها في هذا المحل ، مادام هذا الإنسان لم ير الطائرة يصدِّق ، لكن لو ركب الطائرة ، ورأى حجمها ، ورأى أن علم البشريَّة كله مجموع فيها ، ستمئة راكب بمدينة طائرة ، طعام وشراب ، وهيدروليك ، وأجهزة ، ورادارات ، شيء عجيب في الطائرة ، هل يمكن لإنسان ركب طائرةً كبيرةً نفَّاثةً من أحدث الطائرات أن يصدِّق أنها صنعت في محل متواضع في أحد أسواق دمشق ؟ مستحيل ، لو عرفت الطائرة ما صدَّقت هذا الكلام ، هذا المثل تقريبي .
لو أننا قرأنا هذا القرآن ، وعرفنا ما فيه من تشريعٍ اجتماعي ، ما فيه من حقائق ، ما فيه من ذكرٍ للأولين ، ما فيه من ذكر ليوم القيامة ، ما فيه من نظام الطلاق ، من نظام الميراث ، من نظام الزواج ، من نظام البيوع ، ما فيه من حقائق ، من مشاهد ، من تاريخ ، ما فيه من طُرُق إلى الله عزَّ وجل ، ما فيه من سُنَن ، لو عرفت مضمونه تقول : لا يمكن لبشرٍ كائناً من كان أن يأتي بمثله ، إذا ركبت الطائرة ترفض هذه المقولة ، فإذا لم تركبها ، ولم ترها ، ولم تسمع بها ، وقيل لك : إن هذا القرآن من صنع محمد كان عبقرياً فذَّاً ، كان ذكياً ، جمع العرب بهذا القرآن ، إن لم تقرأه قد تقول : هذا الكلام صحيح ، أما إذا قرأته تقول : هذا ليس من صنع بشر..
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ
الله عزَّ وجل حينما ذكر العنكبوت استعمل تاء التأنيث ، معنى هذا أن من ينسج بيت العنكبوت هي الأنثى .
الحوت ، قال لي بعض الإخوة : إن المريء في الحوت على عِظَم الحوت لا يتَّسع لمرور الإنسان لأنه ضيق ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿
لم يقل : فابتلعه ، أي بقي سيدنا يونس لقمةً في فمه ، ولم يصل إلى جوفه ، النبي الكريم شرَّح الحوت ؟ رأى الجهاز الهضمي للحوت ؟ عرف ضيق المريء ؟ هذا كلام الله ، إذا صعد الإنسان في الفضاء الخارجي يشعر بضيق النفس ، وهذا جاء في كتاب الله ، أي هذا القرآن إلى الآن شيئاً ليس من السهل أن كتاباً قبل ألف وأربعمائة عام ، العلم تقدَّم تقدُّماً مذهلاً ، حتى هذه الساعة لم يحدث أن اكتشف العلماء حقيقةً تناقضت مع كتاب الله ، هذا مما يؤكِّد أنه من عند الله ، من عند خالق الكون ..
القرآن الكريم فيه كل شيء فهو دستور للبشر :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)﴾
لماذا بدأ الله بالجن ؟
﴿
لماذا بدأ بالإنس ؟ لأن هذا كلام رب ، قال : لأن الإنس أقدر على البيان من الجن ، والجن أقدر على خرق السماوات من الإنس ..
﴿
﴿
لماذا بدأ هنا بالزانية ؟ قال : لأنها أقدر على الزنا من الزاني ، ولماذا بدأ هنا بالسارق ؟ لأنه أقدر على السرقة من السارقة ، من المرأة .
﴿
ربنا عزَّ وجل ذكر الأقرباء في هذه الآية لكنَّه بدأها بالأب ، وفي موطنٍ آخر قال:
﴿
بدأ بالنساء ، وفي موطنٍ ثالث :
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) ﴾
بدأ بالأخ ، وفي موطنٍ رابع بدأ بالابن :
﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ
بدأ بالابن ، هذا كلام الله ، في كل موطن قدَّم الله سبحانه وتعالى الشيء المهم ، في موطن اعتزاز الإنسان الاجتماعي قدَّم الأب
﴿ وَهُوَ الَّذِي
إلا في آيةً واحدة عبَّرت عن أن سرعة الضوء أكثر من سرعة الصوت ..
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
ليس سمعنا وأبصرنا ، في ثمانية مواطن قدَّم الله بذل المال على بذل النفس ، لأنه أيسر ، بذل المال أهون من بذل النفس ، وفي آيةٍ واحدة قدَّم الله بذل النفس على بذل المال ..
﴿
في ثمانية مواطن قدَّم المال على النفس ، وفي موطنٍ واحد ..
﴿
في موطن البيع القطعي قدَّم الأهمَّ على المهم ، في القرآن الكريم ذُكِرت كلمة ( اليوم ) ثلاثمئة وخمساً وستين مرَّة ، وذُكر الشهر اثنتا عشرة مرَّة ، هل هذا صدفة ؟ آيات الجنَّة تعادل في عددها آيات النار ، آيات الدنيا تساوي آيات الآخرة ، آيات الملائكة تساوي آيات الشياطين ، شيء عجيب ، في القرآن يوجد إعجاز حسابي ، وفيه إعجاز رياضي ، وفيه إعجاز بلاغي ، وفيه إعجاز تشريعي ، وفيه إعجاز علمي ، ما من حقيقةٍ علميّةٍ إلا وذكر القرآن أصولها ، لم يتطرَّق للتفصيلات لأنه كتاب هدايةٍ وإرشاد ، لكن أصول العلم ، الآن أصول العلاقة الزوجيَّة مذكورة في القرآن ، ذكر الله عزَّ وجل أن الزوجة من آيات الله ، وجعل القِوامة للأزواج لسببين : أنه أعلى منها عقلاً وأفقاً وفكراً وإرادةً وتصميماً وخُلُقاً ، ولأنه أنفق من ماله ، فقال الله عزَّ وجل :
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
درجة واحدة ، أي ينبغي أن يكون الرجل فوق المرأة بدرجة واحدة ، أي أصول العلاقة الزوجية الصحيحة في القرآن موجودة ، أصول البيع والشراء في القرآن ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
إذا كان هذا المشتري يعرف أن هذا البائع مستحكم ، وأخذ منه بالمئة ثلاثمئة ربحاً فهذا الشاري أهو راضٍ ؟ يقول لك البائع : أخي هو قَبل ، نعم لكنه قَبِلَ مضطراً ، هذا اسمه استغلال ، لو كُشِفَ رأس المال للشاري هل يرضى ؟ مقياس البيع الشرعي الرضا .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) ﴾
لو دقَّقت في كتاب الله تجد أن فيه نواح تربويَّة ، فيه كنايات لطيفة جداً ، علَّمنا الأدب في التعبير ، كما أن فيه نواح أخلاقيَّة..
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) ﴾
﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ
القرآن صدَّق ما جاء به الأنبياء السابقون ومجيئه تصديقٌ لما في كتبهم :
إذاً :
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
فجاء النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان مجيئه تصديقاً لما جاء في التوراة والإنجيل ، هذا المعنى الأول .
المعنى الثاني : ولكن تصديق الكتاب ، المعنى الثاني أن ما جاء في القرآن يؤكِّد ما جاء في الإنجيل والتوراة ، لأن الكتب السماويَّة الثلاث من عند الله ، إلهٌ واحد ، والتشريع واحد ، لكن إذا وجدنا في القرآن الكريم تفصيلات لم تَرِد في التوراة والإنجيل فهذا مما ذكره الله عزَّ وجل ، هذا من حكمته ، أي بحسب تعقد الحياة ، بحسب ظهور مشكلات لم تكن ظاهرة من قبل ، فجاء التشريع مقتضباً مرَّةً ، ومفصَّلاً مرَّةً أخرى ..
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف - هذه الجاهليَّة قبل الإسلام - فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه - من نسلِ إبراهيم - وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لتوحيده ، ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونَهانا عنِ الفَواحِشِ ، وقَولِ الزُّورِ ، وأكْلِ مالِ اليَتيمِ، وقَذْفِ المُحصَنةِ ، وأمَرَنا أنْ نَعبُدَ اللهَ وَحْدَه ولا نُشرِكَ به شَيئًا ، وأمَرَنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ . قالت : فعَدَّدَ عليه أُمورَ الإسلامِ ، فصَدَّقْناهُ ، وآمَنَّا به ، واتَّبَعْناهُ على ما جاءَ به ، فعَبَدْنا اللهَ وَحْدَه فلم نُشرِكْ به شَيئًا ، وحَرَّمْنا ما حَرَّمَ علينا ، وأحلَلْنا ما أحَلَّ لنا ، فعدا علينا قَوْمُنا فعَذَّبونا. ))
على كل إذاً :
القرآن الكريم كمال مطلق لأنه من الله عزَّ وجل :
الآية الثانية التي لها علاقة بهذه الآية :
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين