وضع داكن
11-02-2025
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 39 - الكرامات
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الفرق بين المعجزة والكرامة من حيث الأمور العقلية:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والثلاثين من دروس العقيدة.
وصلنا إلى موضوع جديد هو الكرامات، المعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء، فما حقيقة الكرامة؟ هل هي صحيحة؟ هل هي واقعة فعلاً؟ هل نُثبتها؟ وإذا أثبتناها ما الأدلة؟ وهل الأدلة نقلية أو عقلية أم نقلية وعقلية؟ وإذا نفيناها ما الأدلة؟ فالإنسان يجب أن يتعوّد ألا يقبل شيئاً إلا بالدليل النقلي من كتاب الله أو من سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يرفض شيئاً إلا بالدليل النقلي من كتاب الله ومن سُنة رسول الله، فلذلك الكرامات موضوع يكثر الحديث فيه، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يُمَكّنني من توضيح هذا الموضوع الدقيق.
في دروس سابقة بينت لكم أن المعجزة ممكنة عقلاً، لأن الذي خلق هذا الشيء على هذه الشاكلة يستطيع أن يخلقه على شاكلة أخرى، قال الله:

﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾

[  سورة الانفطار ]

الذي خلق البحر، الماء مائعاً سائلاً يستطيع أن يجعله صُلباً يابساً، الذي خلق النار تُحرق قادر على أن يجعلها لا تحرق، إذا قيس الأمر بقدرة الله عزّ وجل فالله على كل شيء قدير، بيّنا في دروس سابقة أن هناك أشياء ممكنة عقلاً، وهناك أشياء واجبة عقلاً، وهناك أشياء مستحيلة عقلاً، فالشيء الواجب الوجود هو الله سبحانه وتعالى، والشيء الممكن هو الكون، كان على هذا الشكل ويمكن أن يكون على شكل آخر، ممكن، فإذا أدخلنا موضوع المعجزات في هذا الموضوع فالمعجزات ممكنة، قال الله:

﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾

[ سورة الأنبياء ]

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)﴾

[ سورة يس ]

الله عزّ وجل جعل لكل شيء سبباً، لكن في أية لحظة يستطيع أن يُلغي هذا السبب أو أن يُعطله، ليبين لنا أن هذا الشيء من خَلْق الله وليس من خَلْق السبب، السبب أي وُجِد معه ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الشيء، فالمعجزة كما تكلمنا عنها سابقاً بدرس مفصّل ممكنة عقلاً، لكن قد تكون غير ممكنة عادة، بحسب العادة غير ممكنة، النار تُحرق عادة فأن تضع إنساناً في النار ولا يحترق فهذا غير ممكن عادة، أما عقلاً فممكن، لأنَّ الذي أحرق الإنسان بالنار قادر على ألا يحرقه بالنار.
إذا أردنا أن ندخل موضوع الكرامات في هذا الموضوع فالكرامات أمور ممكنة عقلاً، الله عزّ وجل على كل شيء قدير، كما أنه أجرى على يد أنبيائه ورسله بعض المعجزات التي هي خرق للعادات من قدرة الله عزّ وجل أن يُجري على بعض الصالحين من أتباع الأنبياء وعلى بعض الأولياء أموراً فيها خرق للعادات، لكن المعجزة هي خرق لمجرى العـادات الكونية مرافقة لدعوى النبوة، هناك إنسان يقول: أنا نبي وهذه المعجزة، فالمعجزة تُرافق دعوى النبوة، ومقرونة بالتحدي، أي فرعون تحدّى، فجاء سيدنا موسى بالمعجزة التي أسكتته وقيّدت دعواه، إذاً المعجزة يرافقها دعوى بالنبوة ويلابسها تحدّ، أما الكرامة فهي خرق للعوائد، ولكن غير مقرونة بالتحدي ولا بدعوى النبوة، لا يوجد نبي يقول: أنا نبي، ولا يوجد تحدّ، إنما شيء خارق للعادات أجراه الله على يد بعض الصالحين من أوليائه المؤمنين أتباع النبي.
 

الكرامة دليل جزئي على أن هذا الإنسان صالح كرّمه الله بخرق العادات:


لكن بالمناسبة هناك قيد للكرامة، ما هذا القيد؟ أن الله سبحانه وتعالى لا يُجري كرامة على يد عبـــد من عباده الصالحين إلا إذا كان ملتزماً بأوامر الله سبحانه وتعالى جملةً وتفصيلاً، فإذا كان غير ملتزم بأوامر الله عزّ وجل، وادّعى أنه أُجريت على يديه كرامة فهذه ضلالة وليست كرامة.
الذي يجعل من خرق العادات كرامة أن الذي أُجريت على يده إنسان مستقيم طيب متبع غير مبتدع، أما إذا ادُّعِي لا أقول جرت، إذا ادُّعي أن فلاناً الفلاني الذي لا يصلي المبتدع الذي في عقيدته زيع، إذا ادُّعي أنه أُجِري على يده شيء مخالف للعادة فهذه لا تسمى كرامة إنما هي ضلالة.
لماذا كانت الكرامة؟ هي شاهد مستمر على إمكان معجزات الأنبياء التي جرت في أزمانهم، أي دليل جزئي على أن هذا الإنسان الصالح كرّمه الله سبحانه وتعالى بخرق العادات، حَفِظه، إذاً من باب أولى أن أنبياءه المصطفون، وأن رسله المكرمون تجري على يديهم معجزات باهرات دالات على رسالتهم، وعلى عظمة الله سبحانه وتعالى.
 

الكرامة شهادة من الله لهذا الإنسان على صلاحه وهي أقل مستوى من المعجزة:


شيء آخر؛ إن هذه الكرامات تؤكد للأتباع أن هذا الإنسان الذي كرّمه الله بهـذه الكرامة مُقرّب عنده، أي كأنها شهادة الله لهذا الإنسان، كيف يشهد الله عزّ وجـل؟ شهد لأنبيائه بالمعجزات، وشهد لرسله بالكتب، فكيف يشهد لبعض أوليائه بالكرامة؟ بأن يُجري على يديهم بعض الكرامات، أي بعض خوارق العادات.
يوجد عندنا ملاحظة ثانية، الكرامة مستواها أقل من مستوى المعجــزة، أي يجوز النبي  يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، إحياء الميت معجزة، الكرامة أقل من ذلك، إحياء ميت معجزة، فإذا ادّعى وليّ من أولياء الله أنه يحيــي الموتى نقول له: لا، الكرامة ليست في مستوى المعجزة، الكرامة يجب أن تكون في مستوى أقل من مستوى المعجزة.
شيء آخر؛ المعجزة لها صفة جماهيرية، أي يُدعى الناس جميعاً لمشاهدتها، فيها تحدّ، ترافق ظهور رسالة سماوية، أما الكرامـة فلها طابع فردي، أولاً مستوى الكرامة أقل من مستوى المعجزة، طابع الكرامة طابع فردي وليس طابعاً جماعياً، بهذه القيود والفروق التي وضحتها لكم يتبيّن أن الكــرامات لا تلتبس بالمعجزات، الكرامات شيء والمعجزات شيء آخر، لن تختلط الكرامة بالمعجزة، الكرامة لها مستوى والمعجزة لها مستوى، الكرامة على شكل فردي، والمعجزة على شكل جماعي، المعجزة يرافقها ظهور نبي أو هبوط وحي أو نزول رسالة، بينما الكرامة لا يرافقها هذا، مع المعجزة يوجد تحدّ من قِبل الناس أما الكرامة ليس هناك تحدّ، هذه بعض الفروق والقيود.
شيء آخر؛ هناك تكريم من الله لبعض الناس، لبعض الصالحين المستقيمين، الملتزمين، المتبعين غير المبتدعين، هناك تكريم لهم يجري وفق العادات لا خلاف العادات.
 

أنواع الكرامة:

 

1- الكرامة التي تجري وفق العادة:

مغزى التكريم الذي يُكرّم الله به بعض عباده وفق مقتدى العادات وليس خلافها قال: هو العلم، مطلق هذا الإنسان العلم، العلم تكريم وأيّ تكريم، بل هو أرفع درجات التكريم، وليس في العلم خرق للعادات، إذاً صارت الكرامات كرامات تجري وفق العادات، وكرامات تجري خلاف العادات، برأيكم أي الكرامات أرفع عند الله درجة؟ التي تجري وفق العادات أم التي تجري خلاف العادات؟ أنت إذا ذهبت إلى طبيب، وكان هذا الطبيب ماهراً وعالماً ومدققاً، وقد أوتي علماً عميقاً في مهنته، وأنت مريض، فإذا طار الطبيب أمامك، حلق في الهواء، وأنت بقيت مريضاً هذه الحالة خير أم أن يفحص مرضك ويشخص الداء ويكتب له الدواء وتشفى؟ أنت أمام طبيبين؛ الأول آتاه الله علماً عميقاً، وقدرة على تشخيص المرض، وقدرة على وصف الدواء المناسب، وطبيب آخر آتاه الله شيئاً من خوارق العادات، عندما دخلت عليه طار في الجو أمامك، أنت بحاجة إلى من؟ إلى الذي أوتي العلم، العلم ليس فيه خرق للعادات، العلم شيء طبيعي، لذلك العلماء قسموا الكرامات على نوعين؛ نوع يجري وفق العادات، وهذا النوع الذي يجري وفق العادات في مقدمة هذه الأنواع العلم، أو القوة الجسمية، قال الله:

﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)﴾  

[ سورة البقرة ]

إنسان قوي آتاه الله عزّ وجل القوة، هذه كرامة، لكن وفق العادات، العلم كرامة وفق العادات، أو القدرة على التوجيه أو القيادة أو الرئاسة، هذه قدرة أيضاً، يوجد إنسان عنده إمكانية يجمع الناس حوله، عنده إمكانية أن يُوفّق بين المتخاصمين، عنده قوة حجة، عنده قوة إقناع، عنده سياسة، عنده فهم، عنده حكمة، فالحكمة والفهم والسياسة والكياسة والقوة الجسمية والعلم هذا كله كرامات، لكنها كرامات وفق مقتضى العادات، وليس فيها خرق للعادات.
أو أن يعطيه مالاً وفيراً، أو أن يجعله ينجب أولاداً من أعلى مستوى الذكاء الرفيع، نابغين، كلهم أطباء أخلاقيون، فطنون، لهم سمعة طيبة، هذه كرامة، أن يؤتيك الله علماً كرامة، أن يؤتيك الله قوة كرامة، تجد جسمك قوياً، يقول لك: لا أعرف المرض، من كرامة الله لهذا الإنسان الحكمة، القدرة على تدبير الأمور، الفطانة، حُسن التصرف، التكيّف، هذه كلها كرامات، المال، الزوجة الصالحة، الأولاد الأبرار، هذه كرامات تجري وفق العادات، فالله سبحانه وتعالى يُكرِم بها بعضاً من عباده الصالحين. 

2- الكرامة التي تجري خلاف العادة:

قد يُكرم بعض عباده بأن يُجري على أيديهم خوارق العادات، من الكرامات التي وردت في كتب العقيدة أن يفتح الله لأوليائه آفاق العلم والمعرفة، هذه كرامة، والدليل قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾

[ سورة البقرة ]

هذه كرامة، إذا آتاك الله عزّ وجل الفهم، إلا أن يؤتى فهماً لكتاب الله، آتاك فهماً لكتاب الله، تقرأ الآية، تفهمها سريعاً، تتضح لك أبعادها، مراميها، علاقتها بالآية السابقة، مدلولها، هذه كرامة من الله عزّ وجل، أن يفتح الله عليك آفاق العلم والمعرفة والدليل هذه الآية، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ من كرامة الله لأوليائه الصالحين أن يجعل لهم مخرجاً، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، الحياة فيها أزمات، فيها ورطات، فيها مشكلات:

كن عن همومك معرضـاً           وكل الأمور إلى القضـا

وابشـر بخيـــر عاجــــل           تنسى به ما قد مضـــى

فـلــرب أمـــــرٍ مسخــطٍ           لك فـي عواقبه رضــــا

ولربما ضاق المضيــــق           وربمـــــــا اتسع الفضـا

فالله يفعل ما يشـــــــــاء           فـــــلا تكـــن معترضــاً

الله عــــــــودك الجميــل           فقس على ما قد مضـى

[ صفي الدين الحلي ]

* * *

الحياة فيها مشكلات، أحياناً تنزل مشكلة، أزمة، ورطة، مصيبة، الأمور تتعقد، ثم الله سبحانه وتعالى إكراماً لك أيها المؤمن يفتح لك مخرجاً ما كان بالحسبان، يخلق لك فرجاً بعد اليأس، يخلق لك حلاً بعد التعقيد:

نزلت فلما استحكمت حلقاتها              فُرِجت وكان يُظن أنها لا تفرج

[ الشافعي ]

* * *

هذه كرامة، يجوز أن يكون كل واحد منكم مُكرّماً عند الله، على هذه المقاييس يعطي الله آثار فهم كتاب الله كرامة معنى هذا، إذا آتاه الحكمة كرمه، إذا وقع بورطة والله خلصه، معنى هذا كرمه، هذه أنواع الكرامات، سبحان الله كلمة مخرج تعني أن الأمور مُحكمة، ليس هناك أمل، الله عزّ وجل لحكمة بالغة لا يفتح لك المخرج إلا بعد أن تُحكم الشدائد من كل جهة، طرقت باب فلان فوجدته مسافراً، فلان وعدك بمبلغ، قال لك: والله ليس معي نقدي، فلان قال لك: عندما تشعر بحاجة هذا رقمي، والله الهاتف تغير ليس هذا هو الرقم يا أخي، فلان قال لك: تعال لعندي ذهبت لعنده ما سمحوا لك بالدخول.

نزلت فلما استحكمت حلقاتها              فُرِجت وكان يُظن أنها لا تفرج

[ الشافعي ]

* * *

فإن وجد لك مخرج من أزمة مستحكمة هذه كرامة أيضاً، كرامة من الله عز وجل.
الآن من كرامات الله لأوليائه المؤمنين أنه يكافئهم على نصر دينه بأن ينصرهم ويؤيدهم، وأن يجعلهم فوق أعدائهم، وذلك بتهيئة الأسباب ودفع الموانع وإلقاء الرعب في قلب العدو، وذلك في مثل قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾

[ سورة محمد ]

هذه كرامة، مكافأةً لك على نُصرة دين الله، وعلى أنك وقفت إلى جانب الحق، وعلى أنك آثرت رضاء الله عزّ وجل، وأسخطت الخلق، وأرضيت الحق، مكافأة لك على كل ذلك ينصرك على عدوك، ويرفع لك ذكرك، ويعطيك أسباب التفوق، ويزيل من أمامك موانع التقدم، ويلقي الرعب في قلوب أعدائك، ويسبغ عليك هيبة كبيرة يجعل الناس يتهيبون أن يهاجموك، هذه كرامة أيضاً، قال تعالى:

﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾

[ سورة القصص ]

 

الكرامات جائزة الوقوع:


الآن تعليق لطيف؛ قال مؤلف الكتاب: وظاهرٌ أن الإكرام بالعلم أو التأييد بالنصر أجلّ وأرفع من الإكرام مثلاً بالمشي على الماء، أو الطيران في الهواء، أو طيّ المسافات البعيدة في زمن قصير، أو تحضير الطعام والشراب في مكان ليس فيه طعام ولا شراب، العلم والفهم والحكمة والقدرة على توضيح الحق للناس والنصر والتأييد أرفع عند الله عز وجل من أن تمشي على سطح الماء أو أن تطير في الهواء، لذلك هذا كلام مؤيد بالأدلة القرآنية القطعية الثبوت، القطعية الدلالة.
وكل منكم فيما أعتقد الله سبحانه وتعالى كرمه بأن طهره، وكرمه بأن علمه، وكرمه بأن حفظه، وكرمه بأن جعل له مخرجاً من بعض أزماته، وكرمه بأن أيده، وكرمه بأن قربه، هذا أكبر تكريم، لذلك يجب أن نعتقد -ونحن ندرس العقيدة الإسلامية-أن الكرامات جائزة الوقوع، وأنه لا مانع من أن يُجريها الله على يد بعض الصالحين من عباده إكراماً لهم، وتأييداً للرسول الذين هم من أتباعه.
 

الكرامة التي يجريها الله على يد بعض الصالحين من الأمور الممكنة عقلاً:


الآن ما دامت الكرامات قد ثبتت عقلاً، الكرامات ممكنة عقلاً، ممكن الله عز وجل  يلقي الله عزّ وجل في قلب عدوك الرعب منك، ممكن الله عز وجل يُلقي عليك هيبة فهذا الخصم يخاف منك، وأنت أضعف منه، ممكن، ممكن هذا الذي سوف يحاسبك لا يرى هذه المخالفة، الله عز وجل صرفه عنك، نجاك منه، ممكن، ممكن أنَّ هذه الورطة بعد أن استحكمت حلقاتها ينفتح لك باباً تخرج منها، ممكن، فاقتنعنا الآن أنَّ الكرامة ممكنة عقلاً، لأن الله على كل شيء قدير، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، هذا الذي سيحاسبك حينما تمر أمامه ليحاسبك يأتيه خاطر متعلّق ببيته مثلاً لا يُدقق فتنجو منه، ممكن، لأنَّ قلبه بيد الله عزّ وجل، وعلى هذا هناك آلاف القصص، لا يوجد إنسان إذا قال له: يا رب، إلا الله عز وجل يقول له: لبيك يا عبدي، الله يعمي عنك، أحياناً الله يعمي عنك، هذه كرامة، أحياناً يجبر عدوك أن يخاف منك، يتهيبك، أحياناً يوجد حل، إذاً الآن أثبتنا أنَّ الكرامة ممكنة عقلاً، الآن هل هناك دليل نقلي أي قرآن أو حديث؟ 
 

الأدلة من الكتاب والسنة على موضوع الكرامة:


أيها الإخوة الأكارم؛ إن هناك صوراً كثيرة من الكرامات قد أثبتها القرآن الكريم، وهناك أمثلة كثيرة من الكرامات أثبتتها الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّ هناك كرامات كثيرة وردت عن أصحاب رسول الله صلوات الله عليه ورضوان الله عليه، إذاً لا يمكن أن تُنكر الكرامة لا من وجه عقلي، ولا من وجه نقلي، ثابتة نقلاً وعقلاً، والنقل يتوافق مع العقل، والعقل يتوافق مع النقل، لكن يوجد تحفظ مهم جداً أتمنى عليكم أن تدققوا فيه، لا داعي إذاً لإنكار الكرامة على أنه متى ظهرت أمارات الصدق في طريق روايتها سلّمنا بها.
لو فرضنا أن كذاباً قال لك: فلان أكرمه الله عزّ وجل ونجاه من ورطة كبيرة، قد يكون ناقل الخبر كذاباً، فهل هذه كرامة؟ لا، لا تثبت هذه الكرامة إلا إذا وردتنا بالخبر الصادق، الآن هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون إنسان الله عز وجل كرمه مثلاً وشرب الخمر ولم يحاسبه، وشعر أنه ينطلق بملكوت السماوات والأرض وهو سكران مثلاً، نقول له: يكفي دجل، أنت إنسان ضال.
يجب أن يكون موضوع الكرامة وفق طاعة الله عزّ وجل، فإذا تضمنت الكرامة المزعومة مخالفة ظاهر الشرع، أو فيها معصية، أو فيها مُنكر، أو فيها تعطيل لحكم الله أو نحو ذلك فهذه ليست كرامة بل هي دجل، حتى لا أحد يقول لك: أنا.
مادام هذا الذي ادّعى أو يزعم فيه ضلال، فيه معصية، لتعطيل حكم الله عز وجل، يوجد فسق، يوجد فجور هذه كلها دلالات من الشيطان.
يجب أن تصلنا الكرامة عن طريق الخبر الصادق، أما مضمونها فيجب ألا يكون فيه مخالفة للشرع، وألا يكون فيها معصية أو منكر أو تعطيل لحكم الله أو نحو ذلك، فإذا تضمنت شيئاً من ذلك رفضناها رفضاً تاماً بل هي ليست بكرامة إنما هي ضلالة من ضلالات الشياطين.
الآن نحتاج إلى الدليل، أين الكرامات التي وردت في كتاب الله؟ قصة أهل الكهف، يا ترى أهل الكهف هل هم أنبياء؟ لا، رسل؟ لا، كلا لها معنى آخر، كلا أداة ردع ونفي، أي إذا قلت لشخص هل أنت جائع؟ يقول لك: لا، إذا قلت لإنسان: هل أنت سارق؟ يقول لك: كلا، هو ينفي ويردعك عن أن تتهمه بهذه التهمة.
فقصة أهل الكهف إنهم فتية مؤمنون فروا من ظلم الملك الكافر الذي كان في زمانهم، وأووا إلى الكهف في بعض الجبال فأنامهم الله ثلاثمئة من السنين وازدادوا تسعاً، هل يوجد إنسان ينام ثلاثمئة وتسع سنوات؟ هذه كرامة، لو أنهم أنبياء لكانت معجزة، لو أنهم رسل لكانت معجزة، ما داموا ليسوا بأنبياء ولا برسل، هم صالحون مؤمنون طيبون، فنومهم المديد كرامة لهم، هذا الأمر النوم المديد خرقٌ من خوارق العادات، وقد أكرمهم الله بذلك، وهم فتية مؤمنون صالحون وليسوا بأنبياء، قال الله:

﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)﴾

[  سورة الكهف ]

السيدة مريم الصّدّيقة هل هي نبية؟ لا، النبوة محصورة بالرجال، ومع ذلك أجرى الله على يديها شيئاً من خوارق العادات، فقد حملت بسيدنا عيسى عليه السلام دون أن يمسها بشر، أليس هذا خرقاً للعادات؟ قال تعالى:

﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)﴾  

[ سورة آل عمران ]

لما أحست السيدة مريم بقُرب ساعات الوضع ابتعدت عن أهلها إلى مكان خالٍ من الجهة الشرقية، وجلست إلى جانب شجرةٍ من أشجار النخيل التي لا ثمر فيها، وحصلت لها من المساعدات الربانية في وضعها أمور كثيرة منها: تساقط الرُّطب عليها من النخلة غير المثمرة لما هزت جذعها:

﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)﴾

[ سورة مريم  ]

هذه كرامة، كرامة لها، أما بحقّ سيدنا عيسى فمعجـــزة، ما دامت جاءت قبل الرسالة فهي إرهاص كما تحدثنا به من قبل.
الكرامة الرابعة، لما وضعت ابنهــا عيسى عليه السلام حملته، وجاءت به إلى قومها، فجعلوا يوَجهون إليها الأسئلة المتندرة، ويحرجونها بالاتهامات الساخرة، وهي صامتة لا تعطيهم جواباً، وألحوا في استجوابها عن سبب حملها الذي لم يتصوروا فيه على حدّ تفكيرهم الضيق إلا الفاحشة، وهي منها براء فأشارت إلى ولدها الرضيع، قال الله:

﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾

[ سورة مريم  ]

هذه كرامة، ليس من السهل أن يتكلم طفل عمره ساعات أو أيام، يتكلم، ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا*وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ .
السيدة عائشة رضي الله عنها نزلت آيات قرآنية تؤكد براءتها مما اتّهمت به من حديث أهل الإفك، الله عزّ وجل كرّمها بأن برأها بقرآنه الكريم، هذه كرامة أيضاً ثابتة في القرآن الكريم، يتضح لكم أن الكرامات مأخوذة من القرآن الكريم.
هناك غلام نشأ في اليمن في عهد ملكٍ من ملوك حمير، استعبد الناس وحجبهم عن الإيمان بالله، وكان لهذا الملك ساحر فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت سناً فابعث إليّ غلاماً أُعلّمه السحر، فاختار الملك غلاماً وبعث به إليه، وتتلمـــذ الغلام على الساحر، وأراد الله بالغلام خيراً فكان يتصل براهبٍ يأخذ عنه الدين والعبادة، وكان مكان الراهب بين منزل أهل الغلام وبين مكان الساحر، وكان يحتال لتبرير تأخره على الساحر صباحاً، وعن أهله مساءً، وقد تقدّم هذا الغلام في درجات التقوى حتى أجرى الله على يديه كرامات كثيرة، منها أنّ دابة خاف الناس منها، وقطعت عليهم طريقهم فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمــر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها، اعتقد الناس به، ثم الراهب ثم الساحر، الراهب رجل دين، والساحر رجل كذاب، الملك حينما رأى بعض الناس قد آمنوا به، آمنوا بالله خالق السماوات والأرض حقد عليهم، وعذّبهم، وقتّلهم، طبعاً القصة طويلة، حاول الملك أن يقتل الغلام ما تمكن أول مرة لا في البحر ولا في الجبل، حاول أن يأخذوه إلى جبل فأردوه من علٍ ما تمكنوا، أخذوه إلى عرض البحر ليُغرقوه ما تمكنوا، الله عزّ وجل كان يحفظه، يُميت من معه ويحفظهُ هوَ، إلى أن قال الغلام للملك: إنك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم تأخذ سهماً من كنانتي، ثم تضع السهم في كبد القوس، ثم تقول: باسم الله ربّ الغلام، ترمي فإن فعلت قتلتني، ليس لك أن تقتلني إلا بهذه الطريقة، فلما فعل قُتِل بهذه الطريقة فكبّر الناس جميعاً، وآمنوا بالله خالق السماوات والأرض، وكفروا بهذا الملك الذي يدّعي أنه رب، فكان هذا الغلام ضحّى بحياته من أجل أن يؤمن الناس بالله رب العالمين، هذه كرامة وردت في بعض الكتب الصحيحة، والله سبحانه وتعالى أشار إليها، قال تعالى:

﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)﴾

[ سورة البروج  ]

إن الملك لما آمنوا بالله عزّ وجل حفر لهم أخدوداً، وأشعـــل فيه النار، وحرّقهم فيه، قال الله:

﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)﴾

[ سورة البروج  ]

هذه بعض الأمثلة التي وردت في موضوع الكرامة، إن شاء الله يكون الموضوع واضحاً، الكرامة حق، ممكنة عقلاً، وممكنة نقلاً، ثابتة بالعقل وثابتة بالنقل، النقل أي هناك آيات كثيرة، وأحاديث تؤكد الكرامة، لكن أتمنى أن يبقى في أذهانكم أن أرفع الكرامات هو العلم والمعرفة والحكمة والقدرة على هداية الناس، هذه الكرامة المجدية.
آخر شيء من الكرامات ثابتة حينما كان يخطب سيدنا عمر على المنبر فجأة قطع خطابه، وقال: يا سارية الجبل الجبل، سيدنا سارية أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائداً في جيش يغزو الفرس، يبدو أن خلف الجبل يوجد كمين للفرس، سيدنا عمر وهو على المنبر رأى الكمين ورأى الجيش فخاطبه قال: يا سارية الجبل الجبل، فسمع سيدنا سارية، وقال: أسمع صوت أمير المؤمنين يُحذرني الجبل، هل هذا لاسلكي؟ سلكي؟ لا، هل يوجد خط هاتفي؟ لاسلكي؟ لا، لا لاسلكي هذا، ليس سلكاً ولا لاسلكاً، لكنه كرامة من الله عز وجل، أيضاً هذه قصة ثابتة، إلا إن كانت كرامة أجريت على يد إنسان فاسق، فاجر، مُخَلّط، مبتدع، لا يصلي، له معاص، يجلس مع النساء، يخرق حدود الشرع، إياكم أن تسموها كرامة، هذه ضلالة، لقوله تعالى:

﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)﴾

[ سورة الكهف ]

مستحيل.
خاتمة الموضوع نرى مما سبق أن الكرامة من الأمور الثابتة قطعاً، والتي لا يُشك بها نظراً للأدلة العقلية والنقلية، ومن يُنكرها من حيث هي فإنما يُنكر شيئاً شهدت بإمكانه الأدلة العقلية، وتظاهرت على إثبات وقوعه الأدلة الشرعية المتواترة من قرآن وسنّة، بلغت في معناها معنى التواتر على ما نعتقد، ولا داع أيضاً لإنكار مفردات الكرامات متى ثبتت الحادثة بطريق صحيح، كمفردات مادامت قد ثبتت بالطريق الصحيح عن طريق صحة الإسناد أيضاً الكرامة صحيحة.
 

المؤمن الموفق يأخذ بالأسباب ثم يتوكل على الله:


لكن أريد أن أوضح لكم شيئاً، لو فرضنا طالباً من طلاب العلم، من طلاب المدارس، قضى العام الدراسي في طاعة الله عزّ وجل، فرضاً ولم يكن يحضر للمادة، وهذا شيء مخالف للسنة، لأنه يجب أن تأخذ بالأسباب ثم تتوكل على رب الأرباب، لكن فرضاً حادثة، طالب من الناس طوال السنة مستقيم، يحضر مجالس العلم، لا تأخذه في الله لومة لائم، من مسجد إلى مسجد، من طاعة إلى طاعة، وشارف الامتحان على المجيء، وهذه المادة التي فحصها غداً ليس متمكناً منها، والفحص مصيري، وسيترتب على هذا الفحص مستقبله، أي فرضاً نام ليلة الامتحان فرأى في المنام أن السؤال هو الفلاني، استيقظ قرأ السؤال جيداً أتقنه مرة مرتين ثلاث أربع إلى أن حفظه، دخــــل الامتحان السؤال وحيد إجباري نفسه، كتب أخذ علامة تامة، بربكم مع أن هذه القصة صحيحة وهي كرامة لهذا الطالب أيصح أن تُلقى على الطلبة هذه القصة؟ اذهبوا للنوم طوال السنة، وانتظروا مناماً، هل يتعلم الطالب بهذه الطريقة؟ 
إذاً أنا موقفي من الكرامات أنني لا أُنكرها، ولا أرويهــا، إذا أكثرت من رواية الكرامات هذا شيء قد يدعو إلى الكسل، خلاف أوامر الدين، خلاف الأخذ بالأسباب، لماذا النبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهو نبي الله، وهو رسول الله، وهو المعصوم من أن يُقتل، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾

[ سورة المائدة ]

لماذا سار في طريق مساحل باتجاه الساحل؟ ولماذا اختار خبيراً للطريق؟ ولماذا اختار رجلاً يمحو آثار المشي؟ ولماذا اختار رجلاً يأتيه بالأخبار وآخر يأتيه بالزاد؟ ولماذا دخل إلى غار ثور حين اشتداد الطلب؟ أليس هذا كله أخذاً بالأسباب؟ هكذا المؤمن، لذلك أنا ترونني لا أُكثِر من ذكر الكرامات، الكرامة لك شخصية، حادث شخصي لك، هذا الطالب لكرامته على الله عز وجل ولأنه أمضى كل العام الدراسي في طاعة الله، وفي التقرب إليه، وفي طلب العلم الشرعي وغفل عن هذه المادة، أراد الله أن يبين له كرامته عنده، فأراه في المنام سؤال الامتحان ودرسه وتمكّن منه ونجح، لو تلونا هذه القصة على مسامع الطلاب لثبطنا عزائمهم، لذلك أنا لا أتمنى عليكم أن تتحدثوا بالكرامات، أنت بحاجة إلى طبيب يعالجك من مرضك، لا تريد شخصاً يعمل أمامك بلهوانيات وأنت تبقى مريضاً، أليس كذلك؟ هل أنت بحاجة إلى إنسان يفعل أمامك خوارق العادات وأنت كما أنت أم تريد إنساناً يشفيك من مرضك؟ هذه أول ملاحظة.
 

ينبغي على المسلم أن يكون همه معرفة الله وفهم كتابه:


الملاحظة الثانية؛ كل الذي أرجوه أن تعتقدوا أن أعظم الكرامة أن تعرف الله عزّ وجل، وأن تفهم كتابه، وأن تفهم سُنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تكون فقيهاً، وأن تتلو كتاب الله، وأن تُعلِّمه للناس، وأن تُرزق الحكمة في تصريف الأمور، وأن تُرزق التكيف مع الظروف الصعبة، وأن ترزق النصر على من يناوئك، هذه الكرامة الحقيقية، فإذا أردت أن تكون من هؤلاء فأغلب الظن أن كل من يسمعني، وكل من يحضر هذا المجلس لاشك أنَّ الله أكرمه بطريقة أو بأخرى من هذه الكرامات.
 

الكرامة من الحوادث الخاصة وليست من العامة كالمعجزات:


شيء آخر؛ الكرامات حوادث خاصة غير قابلة للنشر، غير صالحة للنشر، أما المعجزات فحوادث عامّة، لما أُسري بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس، وعُرِجَ به إلى السماء، أَفي إمكانه أن يسكت عنها؟ هذه معجزة ينبغي أن يبوح بها، أما إذا أنت أكرمك الله عزّ وجل بشيء، وحدثت الناس فيه ماذا سيحدث؟ أكثرهم يكذبونك، اخرج منها، يقولون له: كفاك دجل، أنت قد تكون صادقاً، وقد تكون مخلصاً، وما كذبت، الله كرّمك، لكن قد يكون المعتقدون بك قلائل لا يصدقونك، فأنا أنصحك إذا كرّمك الله عز ّوجل بشيء فلا تتكلم به لأحد هذا لك خاص، هذه الكرامة خاصة، فالكرامات حوادث خاصة يُكرّم الله بها بعض المتقين، فلا يصح أن تُتخذ ذريعة للتفاخر، تقول لي: والله هكذا صار معي في الأمس، شاهدت مناماً أنني ألبس أبيض بأبيض، لفة خضراء على رأسي، دخلت إلى بستان جميل، وجدت سيدنا الخضر يجلس ليستقبلني، الله يرضى عليك اترك المنام لك وحدك وأرحنا منه، لا يصح أن تُتخذ هذه الكرامات ذريعة للتفاخر، أو لتحصيل الأموال، بعد هذا يضع غطاء بعد أن يتكلم عن المنام يمد الغطاء، هكذا المسلم؟ وإلا كانت استدراجاً ووبالاً على صاحبها.
 

الكرامة موضوع إكرام فلا يُتّخذ منها حكم شرعي:


شيء آخر؛ لا يمكن أن تُتخذ الكرامة ذريعة لإثبات الأحكام الشرعية، شاهدت في المنام أن رسول الله قال لي: صلّ أنت الفرض فقط، ما هذا الكلام؟ تُرّد الرؤيا، ويثبُت الشرع، هكذا سمعت عن رجل في الحج يلبس سروالاً مخيطاً ورداء، ما هذا يا فلان؟ جاء الهاتف من السماء أنك هكذا تحرم، ما هذا الكلام؟ نعطل مناسك الحج من أجلك؟ لا، هذا كذب، من ادّعى أنه رأى رؤيا، أو جاءه هاتف، أو حدثه قلبه بشيء مخالف للشرع تُردّ الكرامة المزعومة، ويثبت الشرع.
لا تتخذ الكرامة ذريعة للتفاخر، ولا يُتّخذ منها حكم شرعي، الشرع ثبت وانتهى بطريق النقل، وأصح كلمة قرأتها أننا نفهم الشرع بالعقل، ولا نُحكِّم العقل بالشرع، لأن العقل قد يضل، وقد يغتر، وقد يُجاوز الحدود، نفهم الشرع بالعقل، ولا نُحكّم العقل بالشرع، لأن الشرع ثبت بطريق النقل وانتهى الأمر.
الله سبحانه وتعالى قد يُكرِمك بالعلم وهذه كرامة، قد يُكرمك بالحكم، يجعلك حكيماً، قد يُكرمك بالمال، بالزوجة الصالحة، بالأولاد الأبرار، بالرفعة، بالهيبة، بالمكانة، هذه كلها كرامات تجري وفق العادات، وفق الأصول.
درست الله وفقك أخذت شهادة عُليا، تعيّنت بمنصب رفيع، صار لك مكانة اجتماعية،  درست دراسة معينة صرت طبيباً، لك مكانتك، وأنت مُحسن للناس، الناس رفعوا شأنك، هذه كرامة، لكنها جرت مجرى العادات، أي لا تبحث عن الكرامــات التي فيها خرق للعادات، هذه لا تُفكر بها.

  الكرامة تكون وفق حالة الشخص:


الأولى أن تبحث عن الكرامات التي تجري مجرى العادات، أحياناً يأتي أخ جديد للدرس بباله سؤال صعب، الله عز وجل يُلهم هذا المتكلم أن يتكلم عن هذا الأمر، هذه كرامة، أي الله عز وجل راض عن هذا الإنسان كن معه، المتكلم ليس عنده علم، لكن الله عز وجل ألقى في خاطره هذا الموضوع فتكلم به، أحد الحاضرين يبحث عن هذا الموضوع بإصرار، وعلى أحر من الجمر، يقول: من الذي قال له؟ يقول لصديقه: هل أنت قلت له عن هذا الموضوع؟ يقول له: والله ما قلت له شيئاً عن مشكلتك، تحدث من نفسه عن هذا الموضوع، هذه كرامة لطيفة مقبولة أنك ابق مع هذا الإنسان، عبارة عن إلهام إلهي ليس غير.
شيء آخر؛ الكرامة قد تكون وسيلة لتثبيت الإيمان، وقد تكون امتحاناً له وابتلاء، وقد تكون استدراجاً له، فإذا استمر على معصية بعدها كانت وبالاً عليه، ونكالاً به، وحجة عليه من الله تعالى، أحدهم راكب بالبحر، البحر هاج، يا رب ليس لنا سواك، هدأ البحر، وعاد هو إلى الشط، فإذا فعل معصية بعدها فكانت هذه الكرامة استدراجاً وليست تكريماً.
شيء آخر؛ لا يصح بحالٍ من الأحوال الاغترار بأصحاب الكرامات، إذا لم يكونوا ملتزمين بأحكام الشريعة، متقيدين بأوامرها ونواهيها، أخي فلان ولي، أمسك بالعصا كسرها فخرج منها حية، لكن لا يصلي، مادام لا يصلي هذه ليست ولاية، أصحاب الكرامات إن لم يكونوا ملتزمين بأوامر الشرع، واقفين عند حدوده فهذه ليست كرامات، لا تغتر بهم، الحكم الصحيح هو ميزان الشرع، كل من رمى من يده ميزان الشريعة لحظة هلك، ليس الولي كل الولي من يفعل خوارق العادات ولكنه من تجده عند الأمر والنهي في الملمات.
الشافعي كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. 
ثم قال مرة ثانية: بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
الشرع هو المقياس، والكرامات أشياء شخصية حصلت لك، ليست قابلة للنشر، قد تُكذَّب بها، والإنسان كما قَالَ عَلِيٌّ:

(( حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ. ))

[ صحيح البخاري ]

أرجو الله عزّ وجل أن أكون قد وُفقت إلى تحديد موضوع الكرامة.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور