الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس والأربعين من سلسلة دروس مدارج السالكين، في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ومنزلة اليوم هي منزلة الصبر.
الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول: الصبر في القرآن في تسعين موضعاً، لأن الإيمان هو الصبر، لأن الإنسان مخلوق للجنة، وثمن الجنة الصبر.
الفرق بين المؤمن والكافر:
الفرق بين الكافر والمؤمن؛ الكافر متفلت يفعل ما يشاء، يأكل ما يشاء، يجلس مع من يشاء، يذهب إلى أي مكان يشاء، يأخذ أي مال يشاء، يعتدي على أي مخلوق يشاء،

هكذا، تفلت، استرخاء، تحرك عشوائي، المؤمن منضبط بمنهج الله، الشهوات واسعة، القنوات النظيفة محددة، أُودِع في الإنسان حبّ المرأة، القناة النظيفة المشروعة التي ترضي الله أن تنظر إلى زوجتك، وإلى محارمك، وما سوى ذلك تفلت، أخذ المال واسع جداً، هناك ألف مصدر لأخذ المال، الكسب المشروع هو الذي يرضي الله عزّ وجل، فإذاً عملية الصبر عملية ضبط، عملية انتقاء، عملية اختيار، عملية دفع ثمن الجنة، أحياناً إنسان يدخل جامعة، يأخذ شهادة عليا، يحمل لقباً علمياً عالياً، يتعين بمنصب رفيع، يأتيه دخل كبير، يعيش ببحبوحة وبكرامة، ما ثمن هذه المكانة وتلك الكرامة وهذا الدخل الكبير؟ هو أن رفاقه آثروا اللعب، آثروا النزهات، آثروا الجلوس في الأزقة، الوقوف في الأزقة، هو قبع في البيت، وانكبّ على الكتاب، وصبر على الدراسة، عملية صبر، حتى مراتبُ الدنيا-هذه حتى ما بعدها مبتدأ-تحتاج إلى صبر.
إذاً حينما قيل: الإيمان نصفان؛ نصف صبر، ونصف شكر، وفي قول آخر: الإيمان هو الصبر، أي أنت حينما آمنت بالله قيّدت نفسك بمنهج الله، حينما آمنت بالله قيّدت نفسك بما يرضي الله، حينما آمنت بالله سعيت إلى الجنة فقط، تركت كل طريق وسلكت طريق الجنة، تركت كل مال وأخذت المال الحلال، تركت كل شهوة ومارست الشهوة التي تُرضي الله عز وجل، إذاً هذا صبر، الصبر أي الضبط، فالمؤمن مضبوط، ضابط لسانه، ضابط عينه، ضابط يده، ضابط دخله، ضابط إنفاقه، ضابط حركاته، ضابط سكناته.
الصبر واجب بإجماع الأمة، لأن القرآن الكريم حينمــا يقول لك: اصبر، فهذا أمر، وكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، كلام الله منهج، وكلام الله سلسلة أوامر ونواهٍ، وأنت كمؤمن ليس لك خيار.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾
أول موضع من مواضع الصبر أن الله أمر به.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)﴾
﴿اسْتَعِينُوا﴾ معناها الصبر وسيلة، راقب نفسك إن كنت على كرسي طبيب الأسنان، وقال لك: إن قلبك لا يحتمل البنج، المخدر، أنا مضطر أن أقلع لك الضرس من دون مخدر فتحمل، هذه القناعة تجعلك تتمسك بيدي الكرسي، وأن تشدّ عليه من أجل أن تصبر، لأن الطبيب أقنعك، فكلما ازداد علمك ازداد صبرك، أما لو أن الطفل الصغير وُضِعَ على كرسي الطبيب، وشعر بوخزة إبرة المخدر، يصيح ويتحرك حركة عشوائية، لأن إدراك الطفل غير إدراك الراشد، فكلما ازداد عقلك ازداد صبرك، كلما ضَعُفَ إدراكك قلّ صبرك،
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ وقال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾
اصبرْ وأعنْ أخاك على الصبر، أنا أستمع إلى بعض الكلمات من وسوسة الشيطان، يقول لك أخوك مشكلته، تقول له: لو كنت مكانك لانتحرت والله! هذا كلام الشيطان، اصبر يا أخي، الله عزّ وجل رحيم،

بعد الصبر يوجد فرج، الله عز وجل يمتحنك، والمؤمن مبتلى، والنبي أشدّ الناس بلاءً، هذا الكلام فيه مصابرة، اصبر وصابر، لكن المؤمن الصادق يصبر ويستعين بالله على الصبر، قال:
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)﴾
الصبر بقوة إرادة كلام فارغ، يفرط الإنسان، يتماسك أمام الناس، أما فيما بينه وبين ذاته قد يتكلم كلاماً قبيحاً، قد يتحرك حركة عشوائية مُخجلة، لأنه ما استعان بالصبر بالله عز وجل، أُمرنا بالصبر، أُمرنا أن نصبر، وأن نصابر، أُمرنا أن نصبر وأن نستعين بالله على الصبر.
البند الثاني من موضوع الصبر: النهي عن ضده، أي إياك ألا تصبر، إياك أن تضجر، إياك أن تقول: أين الله؟ إياك أن تقول: دعوت فلم يُستَجب لي، إياك أن تقول كلمات تعني أنك لست صابراً:
﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)﴾

يقول لك: الله ما يأخذهم؟ له أقرباء ظلّام حرموه الميراث، يتألم، يستعجل لهم الهلاك أحياناً، وقوله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)﴾
التولّي من الزحف دليل عدم الصبر، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)﴾
بعدم الصبر، هناك أشياء بحياتك هي قدرك؛ ابنك قدرك، زوجتك قدرك، أقرباؤك الذين ليس لك خيار في الانتماء إليهم هم قدرك، فإما أن تصبر عليهم، وإما أن يصبروا عليك، لذلك: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ إنسان خدم والدته كما ذكرت من أيام عشر سنوات، ثم ضجِر أشدّ الضجر فصاح في وجهها فبكت، فجاء أخوه ونقلها إلى بيته، بعد يومين ماتت عند أخيه، ماذا فعل هذا الإنسان؟ أبطل عمله كله ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ أحياناً تحسن لإنسان إحساناً مستمراً، ثم تفقد الصواب فجأة فتهدم كل الذي بنيته سابقاً، الإنسان إذا كان مبتلى، قال:
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾
فالوهن والحزن من عدم الصبر، الوهن والحزن دليل قلة الصبر، الضجر من عمل صالح متعب دليل قلة الصبر، التولّي من الزحف دليل قلة الصبر، استعجال العذاب للأعداء دليل قلة الصبر.
3-الله عز وجل أثنى على أهله:
البند الثالث في موضوع الصبر، الله عز وجل أثنى على أهله، وثناء الله على أهله شيء كبير، والله آية قرآنية حينما أقرؤها:
﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾
هذه قليلة؟! الله يعرف أنه ساق لك شدة، يعرف الأمر بالضبط، يعرف الظروف الصعبة بالضبط، يعرف المشقة التي تتحملها، يعرف الألم الذي يأكل قلبك تماماً، يعرف التضحية التي ضحيت بها، يعرف كم أنت متألم من هذا،
﴿إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب﴾ إذا أثنى الله عليك أليس هذا مكسباً عظيماً أن يثني عليك خالق الأكوان؟
﴿إنا وجدناه صابراً﴾ لوجه الله،

هناك صبر القهر، أما هناك صبر المعرفة، أحياناً يكون إنسان تحت أقوى منه، مقهور، صبر القهر، أما أحياناً قادر على أن يفعل كل شيء، لكن يُلجمه الصبر، يُلجمه خوف الله، يُلجمه رضاء الله عز وجل، يُلجمه طلب الآخرة، يُلجمه خوف العقاب، الصابرون والصادقون، لأنهم صادقون كانوا صابرين، قال تعالى:
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾
الله عز وجل يحب العبد الصابر، هناك إنسان أقل شيء تجده انتهى، انهار، تكلم كلاماً قبيحاً، تطاول، أعلن عن ضجره، أعلن عن عدم صبره، هناك إنسان صابر: ﴿إنا وجدناه صابراً﴾ ، ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ ماذا نستنتج من هاتين الآيتين؟ ما الذي يكشف عدم الصبر؟ ما الذي يكشف عدم الصدق؟ قلة الصبر، الصادق صابر، الأقل صدقاً هو أقل صبراً، غير الصادق ضَجِر، لا يُعدّ صابراً.
البند الرابع:
﴿والله يحب الصابرين﴾ والله لو حققت كل مكاسب وصلها إنسان، هذا أعظم مكسب أن يحبك الله عز وجل،
﴿والله يحب الصابرين﴾ .

﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)﴾
سبحان الله! يقولون: إن الحزن خلّاق، الإنسان إذا رُبِّي في النعيم، لا يوجد عنده مشكلة مالية، لا صحية، ولا أي قضية، السلامة المستمرة والقوة تقسي القلب، تجد كأنه مستغنٍ عن الله، أما الشدة والابتلاء يرققان القلب، وكأن هذا الصابر قريب من الله عز وجل، هذا شيء ملاحظ، عندما يصاب الإنسان بمرض لا سمح الله، حينما يكون هناك مشكلة، تجده سريع البكاء، نفسه شفافة، نفسه قريبة من الله عز وجل، لذلك ورد أن الحزانى في كنف الله، إن الله يحب كل قلب حزين، الحزانى معرضون للرحمة، هذا إنسان قريب من الله، لذلك المصائب قد تخلق بطولات بالإنسان، إنسان معه ألف مليون، تبرع بمليون أو مليونين أو خمسة، هذا هامشها صغير جداً، أحياناً يكون المؤمن معه ألف ليرة، وباق لآخر الشهر مدة سبعة أيام، تقريباً هو في أمس الحاجة إليها، يأتيه أخ بحاجة إلى ألف ليرة، يقع في صراع ثم يدفعها له، ينتصر على نفسه.
5-الصبر يوجب معية الله لك:
البند الخامس في الصبر أن الصبر يوجب معية الله لك، ومعية الله شيء ثمين جداً، قال تعالى:
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾
﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)﴾
هذه المعية الخاصة، معية النصر والتأييد والحفظ والتوفيق، أنت بالصبر ضمِنت النصر والحفظ و التأييد والتوفيق.
البند السادس: الله عز وجل يخبرنا أن الصبر خير لأصحابه، أنت أمام مشكلة؛ لك أن تصبر ولك ألا تصبر، أيهما خير؟ أن تصبر، لأنك إن لم تصبر ماذا تفعل؟ قال تعالى:

﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)﴾
هذا الذي امتلأ قلبه حسداً من رسول الله هل بإمكانه أن يمنع عنه الوحي؟ ليس بإمكانك، آمن به بدل أن تغضب منه، بدل أن تحقد عليه آمن به، جاءت مصيبة، أنت أمام خيارين، تصبر أو لا تصبر، إن صبرت لك الدنيا والآخرة، وإن لم تصبر سوف تقهر، الإنسان إن لم يصبر سوق يُقهر، إخبار الله عز وجل بأن الصبر خير لأصحابه كقوله:
﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)﴾
﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)﴾
أحياناً موظف بدائرة مثلاً، جالس من الساعة الثامنة للساعة الواحدة والربع، بعمل دؤوب شديد، بإخلاص ما بعده إخلاص، يتضايق، يذهب إلى الممشى، يقف على النافذة دقيقة، يأتي المدير العام، يقول له: هذا عملك؟ المدير بشر، دقيقة؟! ما عرف أنه بعمل دؤوب من الساعة الثامنة وحتى الواحدة والربع، رآه في ساعة راحة، نقول: هذا جُوِزَي بأسوأ ما كان يعمل، ثماني ساعات دوام، دقيقة راحة، شاهده المدير أثناء هذه الدقيقة، ربنا عز وجل كريم، ينتقي لك أجمل عمل يكافئك عليه، هو الدعاء: اللهم أعوذ بك من إمام سوء، إن أحسنت لم يقبل، وإن أسأت لم يغفر، اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شرّاً أذاعه.
نقاط بالفقه الإسلامي على الجميع معرفتها وفهمها:
الحديث الشريف يوجد نقطة بالفقه الإسلامي أتمنى أن تتضح لكم، النبي قال:
(( عن أبي موسى ومعاذ بن جبل: لا تأخذُوا الصدقَةَ إلا من هذه الأربعةِ الحِنطةُ والشعيرُ والتَّمرُ والزَّبيبُ. ))
[ إسناده صحيح: السلسلة الصحيحة ]
تجب الزكاة في القمح والشعير والتمر والزبيب، الآن يوجد ألف محصول تَجِب فيه الزكاة، النبي ذكر أربعة فقط، العلماء قالوا: تَجِب الزكاة في علة هذه المحاصيل لا في عينها، رجل يملك عشرين دونماً من التفاح، عنده بدل القمح حمّص، عدس مثلاً، هناك محاصيل غالية جداً وثمينة جداً، فتجب الزكاة في علة هذه العناصر لا في عينها:
(( عن أبي بكرة: لا يقض القاضي حين يقضي وهو غضبان. ))
[ تخريج مشكلة الفقر: إسناده صحيح ]
العلماء حملوا على الغضب ثلاثاً وثلاثين حالة، إذا ابنه مريض، ومرض مخيف، القاضي ممنوع أن يقضي، لأنه ذهنه مشوش، غير صافٍ، أحياناً أنا استخدم عبارة أكون أمام أمر صعب، أقول له: أنا لست معك الآن، سوء فتوى، هو مرتاح، يريد إعطاء التفاصيل، أقول له: أنا لست معك الآن، أنا مشغول، عندي وعد، هناك أناس ينتظرونني، لست معك، فالقاضي لا يملك الحق بالقضاء إذا كان غضبان، أو جوعان، أو تعبان، أو نعسان، أو يوجد مشكلة بحياته، أو عليه قضية، حتى يكون صافياً.
النبي الكريم قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( عن أبي هريرة: لا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا، رَضِيَ مِنْهَا خلقاً آخَرَ. ))
وسعها، لجارك، لأخيك، لصاحبك، لصديقك، لابنك، لأبيك، له سلبيات وله إيجابيات، اجعل هذه مبدأ، اترك الزوجة، كن منصفاً، كل جهة ابحث عن الإيجابيات والسلبيات، فإن ذكرت السلبيات اذكر الإيجابيات، فهذا الذي يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم كقوله تعالى:
﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)﴾
7-إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب:
الآن البند السابع في الصبر: إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب، قال تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)﴾

الله عز وجل مربٍّ، يسير الإنسان في الصحراء يتعب، يجد واحة يرتاح، الله حكيم، يسوق الشدة ثم بعدها الرخاء، يسوق الشدة يوجد بعدها شدة إليه، يسوق المحنة يوجد من بعدها منحة، يسوق الشيء المتعب يوجد بعده الشيء المريح، سيدنا رسول الله بالطائف، إذا كان هناك خط بياني للدعوة بالحضيض، كُذب واستهزئ به واستهزئ بدعوته، وقد ناله الأذى من أبنائهم، قال: يا رب، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، ماذا جاء بعد الطائف؟ الإسراء والمعراج، وصل النبي عليه الصلاة والسلام إلى:
﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)﴾
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾
لقد أطلعه الله أنه سيد الخلق، سيد الأنبياء والمرسلين، متى جاء الإسراء والمعراج؟ بعد الطائف.
وكل شخص منا يوجد عنده طائف، وعنده إسراء ومعراج، بالمعنى الرمزي، عنده ساعات شدة، وعنده ساعات فوز، ساعات محنة، وساعات تكريم، تيسير، بعد العسر يوجد يسر، بعد الضيق يوجد فرج، بعد الضعف يوجد قوة، بعد الفقر يوجد غنى، هذه حكمة الله عز وجل، وهذه تربيته.
وظيفة المصيبة:
أنت عندما تُبشِّر إنساناً بماذا تبشره؟ تبشره بإتلاف المال؟ مستحيل، تبشره بالقتل؟ مستحيل، وإذا قلت: أُبشرك بالقتل، هذه اسمها استعارة تهكمية، على كلّ في الأصل البشرى للشيء الطيب، قال تعالى:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)﴾
بالعين هذه على شبكية العين قد تجد الغني مُكرّماً عند الله والفقير مهاناً، قد تجد القوي مكرماً والضعيف مهاناً، قد تجد الوسيم مكرماً والدميم مهاناً، امرأة على جانب من الجمال مُعززة مكرّمة، امرأة تواجه مشكلة، تجدها غير مرغوبة، فهذه المرأة من الدرجة الثانية تتألم، لكن الله عز وجل يقول:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾
لا، ليس ذلك، ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً، إذا الله عز وجل منعك من شيء لا يعني ذلك أنه يهينك أبداً، أجمل مثل الأب الطبيب شكا له ابنه ألماً في المعدة، قام بالتنظير فوجد التهاباً حاداً، طبخوا كوسا محشي، يمنعه من الأكل، منع بقسوة، وإذا فكرت الأم أن تعطيه نصف قطعة، يصب عليها جام غضبه، فهذا الطفل حينما حُرِم هذه الأكلة الطيبة مثلاً هل يشعر أن أباه يهينه؟ معناها جاهل، يحفظه، هذه ليست إهانة إنما هي حفظ، حينما تفهم المصيبة أنها حفظ نجحت، لذلك الآية الكريمة الله عز وجل يخاطب المؤمنين:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾
الصلاة هي الدعاء، الدعاء لمن بيده القوة، فإذا صلى الله عليك الله بيده كل شيء، الصلاة من الله رحمة وعطاء، من العبد دعاء، من الله عطاء، ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ .
الآن النصر يحتاج إلى صبر، قال تعالى:
﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)﴾

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( واعلَم أنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ، وأنَّ الفرجَ معَ الكربِ. ))
[ صحيح: ابن عثيمين: تفسير سورة الصافات ]
حاجة الصبر إلى قوة إيمان:
هناك شيء ثان، الصبر يحتاج إلى قوة إيمان، أما عدم الصبر دليل ضعف الإيمان، والدليل قال تعالى:

﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾
﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ سيدنا لقمان، فهناك فرق في اللام وفي صبر وغفر، المعنى الذي تعرفونه هو أن الإنسان إذا جاءه من الله مصاب مباشرة عليه أن يصبر، أما إذا جاء هذا المصاب على يد إنسان عليه أن يصبر وأن يغفر، يصبر على قضاء الله وقدره، ويغفر لمن ساق الله هذه المصيبة على يديه، أوضح مثل؛ إنسان وقع ابنه من الشرفة فنزل ميتاً، عليه أن يصبر، لأن هذا قضاء الله وقدره، أو لو أن سائقاً دعس ابنك لا سمح الله ولا قدّر ماذا تفعل؟ هنا أنت بحاجة إلى صبر وإلى مغفرة، وحينما يكون إيمانك قوياً جداً ترى أن هذا الذي ساق الله المصيبة على يديه إنسان قدّر الله عليه هذه المصيبة، إذاً لا تحقد، المؤمن لا يحقد.
الآن المراتب العالية، المواقف الجليلة، البطولات التاريخية، قِمم النجاح، هذا كله يحتاج إلى صبر، أي إن أردت أن تكون من عامة الناس لا تصبر، أما إن أردت أن تكون من أعلام الأمة، من النوابغ، من العباقرة، من كبار الدعاة، من كبار المصلحين، هناك مضائق لابدّ من أن تمر فيها، دقق:
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)﴾
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾
اسمحوا لي بهذه الكلمة أيها الإخوة؛ والله الذي لا إله إلا هو لن نشمَّ ريح الجنة إلا إذا مررنا في المضائق التي رُسِمت لنا ونجحنا فيها، في مضائق الصبر، الصبر عن الشهوة، والصبر على الطاعة، والصبر على قضاء الله وقدره، الحياة مريحة؛ مال، جاه، مكانة، طعام لذيذ، نزهات جميلة، لا يوجد متاعب أبداً، هذا شيء مستحيل، لابد من مضائق تمر فيها، مرّ فيها النبي، ويمر فيها كل مؤمن صادق: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ ، ﴿فاصبر وما صبرك إلا بالله﴾ ، ﴿ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور﴾ .
الوحشي الذي قتل سيدنا حمزة، وأمرته هند بنت عتبة أن يشقّ صدره، وأن يستخرج كبده، فمضغت كبده تحقيقاً لحقدها، هذا الوحشي الذي قتل سيدنا حمزة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحبّ سيدنا الحمزة حباً لا حدود له، أليس بإمكانه أن يقتله؟ أن يُمثِّل به؟ أن يعذبه؟ أعلن الشهادة انتهى، دخل في الإسلام دخلها تقية طبعاً كما يبدو، لكن انتهى، فالصبر دليل العظمة، سهل أن تبطش، لكن البطولة أن تصبر، أن تكظم الغيظ:
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾
المراتب العليا تحتاج إلى صبر:
رجلان قادمان من أوروبا بسيارتين، دخلا فندقاً في بعض مدن أوروبا الشرقية، في الليل فتاتان طرقتا بابي الغرفتين، رجل فتح الباب والآخر طردها، وتابعا المسير إلى الشام، الذي فتح الباب أصبحت حياته سلسلة من العذابات، إلى أن طلّق زوجته، وأغلق محله التجاري، ولم يجد ما يأكل، والثاني صعد هكذا، هذا العطاء لمن؟ لمن صبر:
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾
سيدنا يوسف أكبر شاهد، سيدنا يوسف قدوة للشباب، آثر طاعة الله ورضوانه على شهوته، لذلك ما من شيء أكرم على الله من شاب تائب، إن الله ليباهي الملائكة، يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ ، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ المراتب العليا تحتاج إلى صبر:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾
العِبر لا يستنبطها إلا الصابرون:
الآيات الدالة على عظمة الله، العِبر لا يستنبطها إلا الصابرون، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)﴾
﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)﴾
معنى الصّبّار كثير الصبر، وهو الذي يكتشف الآيات، في الآيات الكونية وفي التكوينية.
العطاء الأبدي والنعيم المقيم يوم القيامة ثمنه الصبر:
الآن قد لا تصدقون، هذه الجنة العظمى، هذه دار الخلد التي وُعِد بها المتقون، هذا المقام الرفيع عند الله عز وجل:
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
هذا العطاء الأبدي، هذا النعيم المقيم، هذا الفوز العظيم، هذا المقام الرفيع في ظلّ رضوان الله، هذا النظر إلى وجه الله الكريم يوم القيامة، قال: كل هذا ثمنه الصبر، هذه الدنيا، الدنيا فيها شهوات وفيها قنوات نظيفة، فإذا سلّكت الشهوات في هذه القنوات هذه إلى الجنة، إذا أفرغت الشهوات في أي قناة هذه إلى النار،
(( عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضعَ لهُ وقاهُ اللهُ مِن فَيْحِ جهنَّمَ ألا إنَّ عملَ الجنَّةِ حَزنٌ بِرَبوةٍ ثلاثًا ألا إنَّ عملَ النَّارِ سَهلٌ بسَهوةٍ، والسَّعيدُ مَن وُقيَ الفِتنَ، وما مِن جرعةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جَرعةِ غَيظٍ يكظِمُها عبدٌ ما كظَمها عبدٌ للَّهِ إلَّا ملأَ جوفَه إيمانًا. ))
[ ابن كثير المصدر تفسير القرآن العظيم، حديث حسن، أخرجه أحمد واللفظ له ]
الآية الكريمة تقول:
﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)﴾
أنتم في سلام، أنتم في دار السلام، اللهم أوصلنا إلى دار السلام بسلام، أنتم في دار السلام، ثمن دار السلام الصبر، ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ .
الصبر يورث صاحبه الإمامة:
النقطة الخامسة عشرة أن الصبر يورث صاحبه الإمامة: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون﴾ .
اقتران الصبر بكل مقامات الإسلام:
الشيء قبل الأخير أن الصبر يقترن بكل مقامات الإسلام؛ يقترن بالإيمان، يقترن بالتقوى، يقترن بالتوكل، يقترن بالشكر، يقترن بالعمل الصالح، يقترن بالرحمة، لذلك كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خير عيش أدركناه بالصبر.
الشقاء والسعادة لا علاقة لهما بشروط الدنيا التي تعارف على أنها عالية:
هناك نقطة إخواننا سأقولها لكم، عندما الله عز وجل يسعد إنساناً، هذه السعادة لا علاقة لها بنوع معيشته، قد يسعدك وأنت في الكوخ، وقد يسعدك وأنت أعزب، وقد يسعدك وأنت فقير، وقد يسعدك وأنت مريض، وقد يسعدك وتأكل أنت أخشن الطعام، يسعدك وأنت ترتدي أخشن الثياب، وقد يشقيك الله عز وجل وأنت في قمة النعيم، الشقاء والسعادة لا علاقة لهما بشروط الدنيا التي تعارف على أنها عالية، الله عز وجل قد يحجب رحمته عن القوي فقوته بلاء عليه، يحجب رحمته عن الوسيم، وسامته بلاء عليه، يحجب رحمته عن الغني، غناه بلاء عليه، يحجب رحمته عن إنسان عنده أولاد، أولاده أعداء له، وقد يفتح رحمته على من حُجِبت عنه الدنيا، فإذا فراشه الخشن أجمل فراش.
يوجد فندق بألمانيا كتبوا على السرير: إن بتّ أرقاً فابحث عن ذنوبك، فالعلة ليست في فرشنا بل في ذنوبك، أحياناً الإنسان لا ينام، يتألم لا ينام.
الأحاديث التي وردت في موضوع الصبر:
يقول سيدنا عمر: خير عيش أدركناه بالصبر، والنبي الكريم أخبر في الحديث الصحيح:
(( عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها. ))
نور في القلب، الصبر كما قالوا: الحسنة نور في القلب، نور في الوجه، صحة في البدن، محبة في قلوب الخلق، سعة في الرزق.
(( ويقول عليه الصلاة والسلام: أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ، سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ قَال: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ شَيْئًا هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ. ))
يا رب ارزقني الصبر، الله يصبرك، افتقر إلى الله بالصبر، الله عز وجل يؤتك الصبر، وفي الحديث الصحيح:
(( عن صهيب بن سنان الرومي: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ وَكَانَ خَيْرًا. ))
النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نصبر عند ملاقاة العدو، وعند المصيبة، وعند الصدمة الأولى، وأمر المصاب أن يحتسب مصيبته عند الله عز وجل، فإن هذا يُخفف من مصيبته، حسبي الله ونعم الوكيل، ونهانا عن الجزع والتسخط والتشكي، فإن هذا يزيد في الإثم ويُذْهِب الأجر، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الصبر خير كله، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي سعيد الخدري: إنَّ نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فأعْطَاهُمْ، حتَّى نَفِدَ ما عِنْدَهُ، فَقَالَ: ما يَكونُ عِندِي مِن خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، ومَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وما أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ. ))
الصبر أي أنت مؤمن، ملخص الدرس: إذا كنت مؤمناً فأنت صابر، وإن لم تصبر فهذا ضعف شديد في إيمانك، فإن ضجرت فهذا يدل على عدم الإيمان، الإيمان هو الصبر، ومن لا صبر له لا إيمان له.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق