الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أُذُنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أُمناء دعوته، وقادة ألويته وارضَ عنّا وعنهم يا ربَّ العالمين.
الله عز وجل خلق هذا العالم وفق نظام السببية:
أيُّها الإخوة الكرام: قبل أيامٍ مرَّت ذكرى الإسراء والمعراج، والحقيقة أنَّ هذه الموضوعات، موضوعات المناسبات تُعالَج دائماً بذِكر وقائع هذه المناسبات، وقد حفظ المسلمون جميعاً دقائق هذه الوقائع وأبعادها،

ولكن الذي يعنينا اليوم الدروس والعِبر التي يمكن أن تُستقى من هذه المناسبة.
أولاً: أنَّ الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)﴾
أي أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق هذا العالم وفق نظام السببية، كل شيءٍ له سبب، والسبب له نتيجة، والنتيجة تأتي بعد السبب، والسبب يأتي قبل النتيجة، هذا من سُنَن الله في خَلقه، لكن الناس يتوهمون أحياناً، أنَّ السبب وحده يخلُق النتيجة، مَن توهم هذا التوهم وقع في الشِرك، العالم الغربي أخذوا بالأسباب بشكلٍ يلفِت النظر، واعتمدوا عليها وحدها وألَّهوها، وقعوا في وادي الشِرك، بينما المسلمون في عصورهم المُتأخرة لم يأخذوا بالسبب أصلاً، وتوكلوا توكلاً ساذجاً سمّاه العلماء تواكلاً، وقعوا في وادي المعصية، هؤلاء أشركوا وهؤلاء عَصوا، ما الموقف الكامل؟ أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذا الموقف يحتاج إلى علمٍ وإلى إرادة، يحتاج أن تأخذ ابنك المريض لا سمح الله إلى أعلى طبيب، وأن تُعطيه الدواء بعنايةٍ فائقة، وتتوجه من أعماق قلبك إلى الله أن يشفيه، لم تعتمد على الأسباب، لكنك أخذت بها طاعةً لله عزَّ وجل.
اعتماد النبي الكريم على الله بعد أن أخذ بالأسباب أثناء هجرته من مكة إلى المدينة:
والنبي عليه الصلاة والسلام، كان من الممكن أن ينتقل من مكَّة إلى المدينة، كما انتقل من مكَّة إلى بيت المقدس بلمح البصر، ولكن علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام في الهجرة،

أن نأخذ بالأسباب، علَّمنا كيف أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لم يدع ثُغرةً إلا وغطَّاها، كلَّف إنساناً يأتيه بالأخبار، وكلَّف إنساناً يمحو الآثار، وكلَّف إنساناً يأتيه بالطعام، واتجه ساحلاً على عكس طريق المدينة ليُضلِّل المطاردين، وقبع في غار ثور أياماً ثلاثة، وأخذ بكل الأسباب عبادةً، لكن شاءت حكمة الله أن يُرينا ربُّنا، أنه أخذ بالأسباب ولم يعتمد عليها، اعتمد على الله، فلمّا وصلوا إليه وشاءت حكمة الله أن يصلوا إليه، قال له الصدِّيق:
(( قلتُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في الغارِ لو أنَّ أحدَهم ينظرُ إلى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنا تحتَ قَدَمَيْهِ فقال يا أبا بكرٍ ما ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهُما ))
[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد ]
والله الذي لا إله إلا هو، لا ينجح المسلمون اليوم وهُم في محنةٍ، العالَم كله يحاربهم، حربٌ عالميةٌ ثالثة معلنةٌ على المسلمين في كل بقاع الأرض، كانت قبل الحادي عشر من أيلول غير مُعلنة، لكنها بعد الحادي عشر من أيلول، أصبحت مُعلنةً جِهاراً ونَهاراً، ولا يُنجّي المؤمنين من هذه المحنة، إلا أن يأخذوا بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم يتوكلون على الله وكأنها ليست بشيء، قال تعالى:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾
على المسلم أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء:
إن أردت أن تسافر ينبغي أن تراجع المركبة مراجعةً تامة، وبعدها تتوجه من أعماق أعماقك إلى الله،

أن يا رب أنت المُسلِّم احفظنِ في هذه الرحلة، المؤمن الطالب يدرس ليلاً نهاراً، يقرأ المَراجِع جميعاً، يُتابع، يُدقِّق، يُلخِّص، وعند الامتحان يقول يا ربِّ أنت الموفق، قدَّمت الذي عليّ، هذا هو الموقف، في أداء فحصٍ، في معالجة مرضٍ، في تجارةٍ، في صناعةٍ، في أي نشاطٍ، هذا المفهوم الدقيق مفهوم الأخذ بالأسباب والتوكل على ربِّ الأرباب، الجمع بينهما يندر أن تراه في المسلمين، تجد مسلماً ساذجاً يقول: توكلنا على الله، لا يُعِد، ولا يُخطط، ولا يسأل، ولا يبحث، ولا يدرس، هذا توكل ساذج، توكلٌ أعمى، هذا التوكل لم يُجدِ نفعاً معنا ولا مع أعدائنا، هُم يُخططون، يُهيئون، يُعدِّون، ونحن نتواكل وندَّعي أنَّ الله معنا.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾
بماذا ردَّ الله عليهم؟ (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم) .
ولو قال المسلمون هذا الكلام، نحن أُمة محمدٍ، يقول الله لهم: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ) ينبغي أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
عدم خضوع الإسراء بالنبي الكريم إلى قانون البشر أو قانون الزمان و المكان:
ولكن لئلا نتوهم كما يتوهم الغرب، أن السبب كافٍ لخلق النتيجة، أحياناً تُعطَّل الأسباب، قال تعالى:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾

هذا الإسراء لا يخضع لقوانين البشر، لا يخضع للزمان والمكان، لا يخضع للتنقل، لو أنه خضع للتنقل، يوجد بالجو أماكن الحرارة ألف وخمسمئة درجة، عُطِّلت كل القوانين فالذي قَنَّن القانون يُقنِّن غيره، والذي قَنَّن القانون يُعطِّله، والذي قَنَّن القانون يُجمِّده، والذي قَنَّن القانون كقوله تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)﴾
أيضاً هناك أُناسٌ أُفقهم ضيقٌ جداً، درسوا في العالم الغربي يقول: لا، الإسراء والمعراج غير معقول، لأنه عدَّ عقله مرجعاً، عقلك جهاز الله خلقه، كما أنَّ الله خلق هذا العقل وخلقه على مبدأ السببية، كان من الممكن أن يخلقه على مبدأٍ آخر مبدأ اللا سبب.
الدروس والعِبر التي يمكن أن تستقى من الإسراء و المعراج :
1 ـ القوانين التي سنَّها الله تعالى بيده يبدلها في أية لحظة و يُغيّرها:
أيُّها الإخوة: الدرس الأول من دروس الإسراء والمعراج، أنَّ الله تنظيماً للحياة، وترسيخاً للمبادئ، وإراحةً للإنسان، جعل قوانين، وجعل أسباب ونتائج، لكن هذه القوانين بيده في أية لحظةٍ يُبدلها، يُغيّرها، لذلك هذا أهم شيءٍ في الحروب، بحسب المنطق لا تستطيع قلةٌ قليلة أن تقف في وجه كثرةٍ كثيرة، ولكن حينما يُقلِّل الله الكفار في أعين المؤمنين، ويُكثِّر المؤمنين في أعين الكفار ننتصر عليهم، والتاريخ الإسلامي حافلٌ بانتصاراتٍ لا يقبلها العقل، ثلاثون ألف لا يقفون أمام ثلاثمئة ألف وهذا حصل، فلذلك أنت حينما تؤمن من خلال الإسراء والمعراج، أنَّ هذا القانون بيد الله، يُجمِّده، يُعدِّله، يُبدِّله، يُلغي مفعوله كقوله تعالى: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) لا تقلق إذاً.
قصص الأنبياء ليست قصصاً للتاريخ و إنما قصصاً لنا تملأ النفس ثقةً بالله تعالى:
أيُّها الإخوة: نحن حينما نقرأ قصص الأنبياء، قد يخطر في بالنا أنها قصة للتاريخ،

لا ليست للتاريخ، بل لنا، يعني فرعون بقوته، بجبروتِه، بأسلحته، بجيشه، بحقدِه، بطُغيانِه، وراء شرذمة قليلة من أتباع موسى عليه السلام، هو وراءهم وصلوا إلى البحر، اسأل مليار إنسان هل هناك أمل؟ أبداً الأمل صفر.
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾
البحر ماء مؤلف من ذرَّات، الذرَّات مؤلفة من نواة وكهارب، بين مادةٍ غازية ومادةٍ صُلبة كُهرب واحد، إذا عدَّل الله كهرُباً واحداً كنّا أمام بحر فإذا نحن أمام طريقٍ يبسٍ، مشى فيه موسى! فلمّا خرج من الضفة الثانية وفرعون في وسط البحر، عاد البحر بحراً، هذه القصة لنا.
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)﴾
الله عزَّ وجل ما طالبكم أيُّها المسلمون أن تُعدّوا العِدّة المُكافئة أبداً فوق طاقتنا، طالبنا أن نُعِدّ القوة المُتاحة فقط (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم) بقدر ما تستطيعون وعلى الله الباقي، هذا المعنى يملأ النفس حماساً وثقةً بالله ويقيناً، وهذا المعنى يرفع معنويات المسلمين.
ترسخ ثقافة الهزيمة عند المسلمين:
الآن أيُّها الإخوة: هناك حالة اسمها ثقافة الهزيمة، لو حصل انتصارٌ لا نُصدِّقه، نقول مؤامرة، تمثيلية، ترسَّخ عندنا ثقافة الهزيمة، لا نقبل أي انتصار،

والحقيقة أنَّ الخط البياني لأعداء الأمة هابط، وكلكم يعلم علم اليقين، أنَّ المُخطط الذي رُسم لهذه المنطقة لم ينجح أبداً، هُم غيروا نحن لم نُغيِّر، لم ينجح
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) .
الدرس الأول من دروس الإسراء والمعراج، أنَّ الله عزَّ وجل من أجل ترسيخ النظام في الحياة، جعل لكل سببٍ نتيجة، ولكل نتيجةٍ سبباً، ولكن بأي لحظةٍ الله يُجمِّد القانون، يُلغيه كما ألغاه في الإسراء والمعراج (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) إنسانٌ ينتقل من مكَّة إلى بيت المقدس، ويصعد إلى الطبقات العُلا في السماء، إلى سدرة المُنتهى، ويعود إلى المقدس، ثم إلى مكَّة، وفراشه لا يزال ساخناً، معنى ذلك القوانين كلها عُطِّلت، لكن قدِّم لله طاعةً وإخلاصاً وصدقاً ومحبَّةً، ترى ما يُشبه المعجزات.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)﴾
أخطر ما يصيب الأمة الإسلامية أن تُهزم من الداخل:
أخطر شيء أيُّها الإخوة: أخطر ما يُصيب الأُمة أن تُهزم من الداخل، أن نيأس
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) هذا هو الدرس الأول:

السبب ليس كافياً لخلق النتيجة، لكن الله هو خالق النتيجة عن طريق السبب كي تنتظم حياتنا، لكن في ظروفٍ صعبة الله عزَّ وجل يُعطِّل الأسباب كيف؟ حاكم قوي، بطاش، طاغوت مثلاً، أحياناً لا يستطيع أن يفعل شيئاً مع إنسان مؤمن، الحسن البصري أدى رسالة العلماء، غضب من كان بيده الأمر، قال: والله لأروينكم من دمه، أمر بقتله، القضية سهلة جداً، قرار لا يحتاج لا إلى محاكمة، ولا إلى تصديق، ولا إلى نقضٍ، أمر بقتله، ائتوني به، دخل إلى مكان قتله فحرك شفتيه، لم يفهم أحد ماذا قال، فإذا بهذا القوي الذي أمر بقتله، يقف له ويستقبله ويقول: أهلاً بأبي سعيد، أنت سيد العلماء! ومازال يُدنيه من مجلسه حتى أجلسه على سريره، وسأله، واستفتاه، وعطَّره، وضيَّفه، وودَّعه، السياف صُعِق، لماذا جئتم بي؟! من أجل قطع رأس هذا العالِم ، تبعه الحاجب قال له: يا أبا سعيد، لقد جيء بك لغير ما فُعِل بك، فماذا قلت لربك؟ قال له: قلت:
"يا ملاذي عند كُربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم" .
وانتهى الأمر، هذا المعنى معنى التوحيد الأمر بيد الله.
﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ (45) قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)﴾
هذا الإيمان هو الذي يجعلك قوياً شجاعاً جريئاً.
جعل الله عزَّ وجل السبب قبل النتيجة ترسيخاً للنظام وإراحةً للإنسان:
أيُّها الإخوة الكرام: إذاً إيّاكم أن تتوهموا أنَّ السبب يكفي لخلق النتيجة، لا بُدَّ من فعل الله عزَّ وجل، لكن الله عزَّ وجل لتنتظم حياتنا جعل السبب قبل النتيجة ترتيب،

أمّا الذي يخلق النتيجة هو الله، الدليل: زوجان شابان، يتمتعان بأعلى درجةٍ من الصحة، وجاهزية الأعضاء، لا يُنجبان، الله عطَّل السبب، السبب كافٍ، زوجٌ وزوجة كلاهما شابٌ لا يُنجبان، والسيدة مريم جاءها المخاض من دون أن يمسَّها إنسان.
﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)﴾
هذين مثالين صارخين، العقم مثال، وإنجاب ابن من دون أب مثال، سيدنا عيسى، إذاً الله عزَّ وجل ترسيخاً للنظام، وإراحةً للإنسان جعل الحياة وفق نظام السببية، وجعل عقلك على مبدأ السببية، أنت لا تفهم شيئاً بلا سبب، لكن أحياناً يتم شفاء تام بلا أسباب، العلماء الأطباء السابقون، وضعوا هذا مع الخرافات، لكنهم قبل عشر سنوات أحدثوا في الطب علماً اسمه الشفاء الذاتي، ظاهرة ورم خبيث بالدرجة الخامسة، والله الذي لا إله إلا هو، لي صديق والقصة منذ اثنين وعشرين عاماً، أصاب رئته مرضٌ خبيث من الدرجة الخامسة، أطباء كثُر، مخابر في دمشق، في بريطانيا، والأطباء أصدقائي حكموا عليه لا أمل في شفائه إطلاقاً، هو الآن حيٌّ يُرزق لا يشكو شيئاً.
الاستعانة بالله و عدم العجز المنهج الذي ينبغي أن يتبعه المسلمون:
أنت حينما تؤمن أنَّ السبب لا يخلق النتيجة ولكن الله يخلقها، ولكن ترسيخاً للنظام، وإراحةً للإنسان رتَّب الأمور هكذا، لكن لو واجهت موقفاً عصيباً استعِن بالله ولا تعجز، أمّا المنهج الذي ينبغي أن يفعله المسلمون، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( قضى بيْن رجُلَينِ، فقال المقضيُّ عليه لَمَّا أدبَرَ: حَسْبيَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللهَ يَلومُ على العَجزِ، ولكِنْ عليك بالكَيسِ، فإذا غلَبَك أمرٌ، فقُلْ: حَسبيَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ ))
يلوم أشدَّ اللوم، تقول ما بيدنا شيء، انتهينا، أعداءنا أقوياءٌ جداً، الإعلام بيدهم، والأموال بيدهم، والثروات بيدهم، والتحالفات كلها معهم، لا، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ أنت بالله أقوى الأقوياء، وأنت بالله أحكم الحكماء، وأنت بالله أغنى الأغنياء، نحتاج إلى إيمان، هناك إلهٌ ما سَلَّمنا إلى أحدٍ، كيف يأمرنا أن نعبده وقد سَلَّمنا إلى غيره؟! لا، قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
كله بيده، ورد بالأثر القدسي:
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مَالِكُ الْمُلْكِ وَمَالِكُ الْمُلُوكِ قُلُوبُ الْمُلُوكِ بِيَدِي، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا أَطَاعُونِي حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا عَصَوْنِي حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالسَّخَطِ وَالنِّقْمَةِ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، إِذًا فَلَا تَشْغِلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ وَلَكِنِ اشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالذِّكْرِ وَالتَّفَرُّغِ إِلَى أَكْفِكُمْ مُلُوكَكَمْ ))
[ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ]
الأمر بيد الله والمعجزة حقّ وإن استغربها العقل:
يجب أن تعبُد إلهاً واحداً هو الله، وكل من تتوهم أنهم أقوياء بيده، نحن وضعنا أمام وحوش مخيفة، كل وحشٍ يمكن أن يلتهمنا بلقمةٍ واحدة، لكن هذه الوحوش بيد الله،

والله عزّ وجل عليم وحكيم وعادل ورحيم، أنت علاقتك مع من؟ ليست مع الوحوش هي بيد الله، أزِّمتُها بيد الله إن كنت معه شدَّ الزمام فابتعد عنك، إن تركته أرخى الزِمام فاقترب منك، هذه القصة كلها، يعني ابن ممسكٌ بيد أُمه، ترك يد أُمه فلحِقه كلبٌ ونبح عليه، يعني ارجِع إلى أمك، هذا مُلخَّص المُلخَّص، الله عزَّ وجل يسوق الأقوياء ويُهدِّد الضُعفاء، كي يلجأ الضُعفاء إلى الله عندئذٍ يكونوا أقوياء، هذا هو الدرس الأول من دروس الإسراء والمعراج، الأمر بيد الله كُن فيكون زُل فيزول، والمعجزة حقّ وإن استغربها العقل، هذا قانون مَن قَنَّنه؟ الله عزَّ وجل، مَن خلق القانون؟ مَن قال إنَّ النار تُحرِق؟ الله عزَّ وجل، الذي أعطى النار قوة الإحراق يأخذ منها هذه القوة، يا نار كوني برداً، لو قال برداً فقط لمات من البرد، قال: وسلاماً كي لا يموت، لو كان الأمر كوني برداً وسلاماً انتهى مفعول النار إلى الأبد، قال على إبراهيم فقط.
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)﴾
قانون بيد الله عزَّ وجل، والقوي بيد الله عزَّ وجل، أحياناً إذا أنت مع الله يملأ قلب القوي خوفاً منك.
(( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ. ))
أمّا لمّا أُمته تركت سُنَّته، هُزِمت بالرُعب مسيرة عام، تلويح، تهديد، ترتعد فرائصنا، هذا من ضَعف إيماننا.
2 ـ أيّة محنةٍ تُصيب المؤمن استناداً إلى درس الإسراء والمعراج يعقبها منحة من الله:
أيُّها الإخوة: الدرس الثاني أكتفي به أنَّ المؤمن على استقامته، وعلى محبَّته لله، وعلى طاعته، أحياناً يمتحنه الله بمصيبةٍ، لذلك والكلام للمؤمن،

أيّةُ مِحنةٍ تُصيب المؤمن استناداً إلى درس الإسراء والمعراج يعقبها مِنحة،
كل محنةٍ وراءها منحة وكل شِدَّةٍ وراءها شَدَّةٌ إلى الله، كان النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف، تصوَّر إنساناً بحجم النبي وبمقامه، سيد الأنبياء والمرسلين، سيد ولد آدم، سيد البشر، قمة البشر، يُضرَب!! الله عزَّ وجل مكَّنه أن ينتقم منهم، أرسل له مَلَك الجبال وقال له:
(( أنَّها قالتْ لرسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ؟ فقالَ: لقد لقيتُ مِن قومِكِ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلالٍ، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رأسي، فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ، فَناداني فقالَ: يا محمَّدُ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ: فَناداني ملَكُ الجبالِ: فسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا ))
مَحقٌ كامل، قال: لا يا أخي
(( إِنَّ اللهَ لم يبعَثْنِي طعَّانًا، ولا لعَّانًا، ولكن بعَثَني داعِيًا ورحمَةً، اللهم اهدِ قوْمِي فإِنَّهم لا يعلمونَ ))
اعتذر عنهم، ودعا لهم، ولم يتخلَّ عنهم، ورجا الله أن يُنجبوا أولاداً موحدين، هذا الكمال، قال:
(( اللهمَّ إليك أشكو ضَعْفَ قوَّتي، وقلةَ حيلتي، وهواني على الناسِ، يا أرحَمَ الراحمِينَ، أنت رَبُّ المستضعَفِينَ، وأنت ربِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يَتجهَّمُني، أو إلى عدوٍّ ملَّكْتَهُ أمري؟! إن لم يكُنْ بك غضَبٌ عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أن عافيتَك هي أوسَعُ لي، أعُوذُ بنورِ وجهِك الذي أشرَقتْ له الظُّلماتُ، وصلَح عليه أمرُ الدُّنيا والآخرةِ، أن يَحِلَّ عليَّ غضَبُك، أو أن يَنزِلَ بي سخَطُك، لك العُتْبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بك ))
هذه الشِدّة إن كانت تعني أنك غاضبٌ عليّ أنا أستغفرك، وإن كان ليس لها علاقة بغضبك أنا راضٍ بها (غيرَ أن عافيتَك هي أوسَعُ لي) .
الإسراء والمعراج هو الردّ الإلهي على مِحنة النبي عليه الصلاة والسلام:
الآن ننتقل إلى سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) لو أنَّ شخصاً مُتعتعٌ في حفظ القرآن الكريم، وأراد أن يُكمل هذه الآية من عنده، أنسَب تتمة للآية: إنه على كل شيءٍ قدير، أخذه من مكَّة إلى بيت المقدس وهو في السماوات العُلا! قال: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يا ربّي ما علاقة سميعٌ بصير بالآية؟ يعني يا محمد سَمِعنا دعاءك في الطائف، سَمِعنا تواضعك في الطائف، سَمِعنا رحمتك بالطائف، سَمِعنا ترفُّعك عن الانتقام منهم بالطائف، سَمِعنا منك بالطائف دعوةً لهم، أنت في محنةٍ كنت وسَمِعنا دعاءك، وهذا هو رَدُّنا أنت سيد الأنبياء والمرسلين.
الشدائد عقوبات من الله إن لم يكن الإنسان مستقيماً:
أيُّها الأخ الكريم: استقم كما أُمِرت كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾

واعلَم عِلم اليقين، أنَّ كل مؤمنٍ يستقيم على أمر الله، لو أصابته مِحنة ليعتقد اعتقاداً جازماً أنَّ وراء المِحنة مِنحة، مُقتدياً برسول الله، وكل شدةٍ صحيةٍ، ماليةٍ، اجتماعيةٍ، في بيتك، في عملك، مع أولادك، وراءها شدَّةٌ إلى الله، هذا الدرس الثاني، الإسراء والمعراج هو الردُّ الإلهي على مِحنة النبي عليه الصلاة والسلام، حينما جفاه أهل الأرض رحَّبت به السماء، فكان سيد الأنبياء والمرسلين.
لذلك: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) بشرط أن يكون هناك استقامة، إن لم يكن هناك استقامة فالشدائد عقوبات من الله، المال الحرام المال يُتلَف، لا تقول لي هذا امتحان، لا هذا عقاب، هناك معصيةٌ كبيرة جاء وراءها شِدّةٌ بالغة، هذه الشِدَّة عقاب، أنا أتحدث عن مؤمنٍ مستقيمٍ أصابته مِحنة، ليعتقد اعتقاداً جازماً أنَّ بعد هذه المِحنة مِنحة، وأنَّ بعد هذه الشِدّة شَدَّةٌ إلى الله.
على كلٍّ أيُّها الإخوة: لا تخلو حياة المؤمن من شِدَّةٍ تكون أحياناً عقاباً على تقصيرٍ أو معصية، ولا تخلو حياة المؤمن من شِدَّةٍ تكون امتحاناً مع استقامته وطاعته، ثم تستقر حياته على الإكرام، هناك مرحلة تأديب، مرحلة ابتلاء، مرحلة تكريم، هذه المراحل تتداخل أو تتمايز، يمكن بيومٍ واحدٍ أن تأتي الإنسان شِدّة هي عقاب وشِدّة هي ابتلاء بيومٍ واحدٍ، فهناك مرحلة تأديب، مرحلة امتحان، مرحلة تكريم.
كل مِحنة وراءها مِنحة وكل شِدّة وراءها شَدّة:
أيُّها الإخوة الكرام: لا بُدَّ من خُطبةٍ أُخرى حول الإسراء والمعراج، كي نستنبط هذه الدروس التي نحن في أمسّ الحاجة إليها، تحدَّثنا عن درسين:
درس أنَّ الأسباب وحدها لا تخلُق النتائج، لا بُدَّ من أن تأخذ بالأسباب تعبُّداً، ولا بُدَّ من أن تنتظر النتائج قياساً على أنَّ الله جعل لكل نتيجةٍ سبب، أمّا إن لم تكن النتيجة، ينبغي أن تستسلم لحكمة الله عزَّ وجل، واعلَم عِلم اليقين أنَّ النتيجة يَخلُقها الله وحده، لكن السبب هو سببٌ مباشرٌ لها، أمّا السبب غير المباشِر هو خلق الله لهذه النتيجة، هذا الدرس الأول، والدرس الثاني أنَّ المِحن والشدائد تسوق الإنسان إلى باب الله عزَّ وجل، وكل مِحنةٍ وراءها مِنحة وكل شِدَّةٍ وراءها شَدَّة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المُستغفرين، أستغفر الله.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القصص في القرآن ليست مقصودة لأخذ العِلم بل لتكون نموذجاً قابلاً للإعادة:
أيُّها الإخوة: مرَّةً ثانية وثالثة، عوِّد نفسك أنَّ القصص التي في القرآن الكريم، ليست مقصودةً لأخذ العِلم على أنها وقعت ولن تقع، أكبر وهم يقع به المسلم، حينما يقرأ قصةً عن نبيٍ سابق أو عن قومٍ سابقين، ويتوهم أنَّ هذه القصة تاريخية وقعت ولن تقع، لذلك لحكمةٍ بالغةٍ بالغةٍ بالغة أغفل الله التفاصيل، لأنه لو ذكر التفاصيل لكان توهمك صحيحاً، قصةٌ وقعت ولن تقع، لكن الله أغفل التفاصيل لا لتكون قصةً تاريخية، بل لتكون نموذجاً قابلاً للإعادة في أية لحظة.
قصص الأنبياء ليست قصصاً فقط و إنما قانون سنَّه الله عزَّ وجل:
نبيٌ كريم هو في البحر وقع فالتقمه الحوت، يا ترى اسأل مليون إنسان عن احتمال نجاة إنسان التقمه الحوت كم؟ الحوت وجبته المُعتدلة أربعة أطنان، فالإنسان لقمة واحدة، ما وزنك؟ ثمانين كيلو لقمة واحدة، إذا أربعة طن الوجبة بين الوجبتين، هذه ليست الوجبة الأساسية، هذه أربعة طن وسيدنا يونس وزنه سبعين كيلو أي لقمة واحدة فقط ودخل فمه، في ظلمة الليل، والبحر بعد مئتي متر ظلامٌ دامس، وظلمة البحر، وفي بطن الحوت لا يوجد كهرباء، في ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، هو تحت لا يوجد تغطية؟ هناك تغطية؟
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)﴾
لا يوجد غيرك، أنت معي يا ربّ، أنا في فم الحوت في أعماق البحر، في ظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، أنت معي يا ربّ (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) حينما تركت قومي:
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
والقصة انتهت، إيّاكم أن تظنوا أنها قصة، إيّاكم أن تتوهموا أنها قصة، هي قانون وقد ذَكر الله القانون (وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) .
الأمر دائماً بيد الله وحده لا شريك له:
بأيّ عصرٍ، بعام ألفين وثمانية يُنجيك وليس فقط بعام ألف ومئتين، بالشرق الأوسط، في الغرب، في الشمال، في الجنوب، في الطائرة، وقعت طائرة فوق جبال الألب، الله عزَّ وجل نجّا شخصاً واحداً فقط لا يوجد غيره! كان انشطار الطائرة جانب مقعده فوقع، وقع فوق غابة صنوبر يوجد فوقها ثلج خمسة أمتار، والأغصان ماصّة للصدمة، فنزل واقفاً!

امرأةٌ باكستانية معها طفلان صغيران، ركبت بطائرة من جدَّة إلى الباكستان، يبدو أنَّ الطائرة قديمة، فأصاب النافذة التي بجانبها خللٌ فكُسر زجاج النافذة، وعلى اعتبار أنها مضغوطة ثمانية أمثال الطائرة، وقع الصغيران في البحر فوق الخليج، طفلان رضيعان صغيران خرجا من النافذة بحكم ضغط الهواء الشديد في الطائرة، انتهى الأمر موتٌ مُحقَّق بالمئة مليون، هذان الطفلان يسقُطان إلى جانب صياد، وجد شيئاً سقط من السماء فأخرجهما وقدمهما، وبعد الفحوص أخبروا السفارة الإماراتية في الباكستان أنه يوجد طفلان، هل من الممكن طفلٌ يقع على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم ويَسلَم؟!
وَإِذا العناية لا حَظَتكَ عيونها نَم فَالمَخاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمانُ
مرَّةً طائرة تشيكية وقعت قبل مطار دمشق، والقصة قديمة جداً، نجا شخصٌ واحد لا يوجد غيره لم يضع حزام الأمان، هذا الوحيد الذي نجا، على موضوع حزام الأمان الآن.
أيُّها الإخوة الكرام: مُلخَّص التعقيب، قصص القرآن أغفل الله التفاصيل لا لتكون قصة وقعت ولن تقع، بل لتكون نموذجاً متكرراً، فأنت إذا وقعت في مِحنةٍ، أعتقد أقل من مِحنة سيدنا يونس تكون في بطن الحوت! أقل بكثير، يقول لك: لا يوجد بيع، عليّ ديون، لا يوجد معي صندوق، هناك مشكلة، فأي مشكلة تكون أقل من مشكلة سيدنا يونس، اقرأ السورة واقرأ (وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) هذا الإيمان، الإيمان أن ترى أنَّ الأمر بيد الله، لا إله إلا الله.
اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرِف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، سبحانك إنه لا يذلُّ من واليت ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك.
اللهم اعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهِنّا، آثرنا ولا تؤثِر علينا، ارضنا وارضَ عنّا.
اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تُبلغنا بها جنَّتك، ومن اليقين ما تُهوُّن به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوُّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وانصُرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ عِلمنا، ولا تُسلِّط علينا مَن لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا ربّ العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصُر الإسلام وأعز المسلمين، وخُذ بيد ولاتهم إلى ما تُحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .
الملف مدقق