الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مِن أسماء الله الحسنى القدوس:
أيها الإخوة الكرام؛ مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم القدوس، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في موضعين، في قوله تعالى:
﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)﴾
وقد ورد في موضع آخر في قوله تعالى:
﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)﴾
أما في السنة الصحيحة ففي صحيح مسلم
(( من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولُ في رُكوعِهِ وسُجُودِهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائِكَةِ والرُّوحِ. ))
وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم إذا هبّ من الليل يقول:
(( عن أُبي بن كعب: سبحانَ الملكِ القدوسِ [أي حديث: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا سلَّم في الوِترِ، قال: سبحانَ الملِكِ القُدُّوسِ]. ))
[ أبو داوود: كشف الخفاء: خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح ]
إذاً هذا الاسم دخل في أذكار النبي عليه الصلاة والسلام.
تسمية الجنة بحظيرة القدس لأنها مُطهرة من كل عيوب الدنيا:
ما هو التقديس؟ التقديس التطهير، سُمِّيت الجنة بحظيرة القدس لأنها مُطهرة من كل عيوب الدنيا، لا يوجد كِبَر، ولا يوجد ضعف بصر، ولا يوجد شيب، ولا يوجد انحناء ظهر، ولا يوجد ابن عاق، ولا يوجد زوجة سيئة، ولا يوجد دخل قليل، ولا يوجد فقر، ولا يوجد مرض، سميت الجنة بحظيرة القدس لأنها مُطهّرة من كل عيوب الدنيا، وجبريل سماه الله في القرآن الكريم: الروح القدس، قال تعالى:
﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)﴾
لأنه مُطهّر من كل عيوب التبليغ، لا ينسى، ولا يغير، ولا يُبَدل، ولا يضيف، ولا يحذف، ولا يبالغ، لأنه مطهر من كل عيوب التبليغ.
اتّصاف المؤمن بالعدالة والضبط معاً:
لذلك المؤمن الموصول بالله عز وجل يتصف بالعدالة والضبط، العدالة صفة نفسية والضبط صفة عقلية، قيل: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كمُلت مروءته، وظهرت عدالته، ووَجَبت أخوته، وحرُمت غيبته، المعنى المعاكس إذا عاملهم فظلمهم، وحدثهم فكذبهم، ووعدهم فأخلفهم-دققوا-سقطت عدالته، لكن بعض العلماء أشار إلى أن هناك حالات كثيرة العدالة لا تسقط، لكنها تُجرَح، تطفيف بتمرة يجرح العدالة، أي الوزن لم يأتِ تماماً، قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن جابر بن عبد الله: إذا وزنتم فأرجحوا. ))
الوزن أقل بتمرة واحدة، جُرحت العدالة، أكل لقمة من حرام، لا تنوي أن تشتري، ذقت هذه الفاكهة الشهية، أكلت حبة منها، وادّعيت أن السعر مرتفع ومشيت، أكلت لقمة من حرام، هذه تجرح العدالة، من مشى حافياً تُجرح عدالته، من بال في الطريق تُجرح عدالته، من أكل في الطريق تُجرح عدالته، من علا صياحه في البيت حتى سمعه من في الطريق تُجرح عدالته، من تنزّه في الطرقات ليُمتع عينيه بالغاديات والرائحات تُجرح عدالته، من صحِب الأراذل تُجرح عدالته، من قاد برذوناً-حيوان مخيف أخاف به الأطفال-تُجرح عدالته، من أطلق لفرسه العنان، السرعة الزائدة تجرح العدالة، من كان حديثه عن النساء، هذه طويلة، وهذه بيضاء، وهذه، الحديث عن النساء يجرح العدالة، أرأيت إلى دقة هذا الدين العظيم؟ هناك أشياء، الظلم، والكذب، وإخلاف الوعد يُسقِط العدالة، بينما أكل لقمة من حرام، تطفيف بتمرة تجرح العدالة، فالمؤمن يتصف بالعدالة، ويتصف بالضبط.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾
يتمتع المؤمن بالضبط، وبالعدالة معاً.
على كل إنسان أن يُطهر نفسه عن كل عيب إذا أراد أن يُقبل على الله عز وجل:
أيها الإخوة الكرام؛ القداسة هي الطهارة والبركة، والبركة الخير الكثير، قدّس الرجل ربه، قال: إذا عظّمه، وكبّره، وطهر نفسه بتوحيده وعبادته، قال تعالى يصف الملائكة في حالهم مع الله:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)﴾
الكلام دقيق، أي نُطَهر أنفسنا من كل العيوب حتى نُقبل عليك يا ربنا.
الآن دخلنا بموضوع دقيق: الأقوياء في الدنيا، أي إنسان أعلن لهم الولاء يقبلونه ولا ينتبهون إلى سلوكه، أي إنسان رفع صورتهم يقبلونه، أي إنسان أرسل لهم برقية تأييد يقبلونه، لكن الواحد الديان إن لم تكن مستقيماً، إن لم تكن طاهراً، إن لم تكن رحيماً، إن لم تكن مُنصفاً، إن لم تكن متواضعاً لا يقبلك، الولاء للأقوياء شيء، والولاء لله عز وجل شيء آخر، لأن
(( عن أبي هريرة: إن الله طيِّب لا يقبلُ إلا طيباً. ))
مع غير الله القضية سهلة جداً، أي سلوك يؤكد ولاءك له أنت مقبول عنده، لكن القضية مع الله شيء آخر، لا يقبلك، ولا يتجلى على قلبك، ولا يُلقي في قلبك السكينة، ولا يُشعرك أنه يحبك إلا إذا كنت طاهراً من الكذب، من الغش، من الاحتيال، من الكِبر.
الله عز وجل لا يقبل الإنسان إلا إذا كان طاهراً من الذنوب والعيوب معاً:
أؤكد لكم أن صفة العنصرية الآن صفة شائعة بين الناس، أي هناك توهم أن ترى لنفسك ما ليس لغيرك، هذا موقف عنصري يمنعك من أن تكون قريباً من الله، لأن ((الله طيِّب لا يقبلُ إلا طيباً)) وإذا توهمت أيضاً أن على غيرك ما ليس عليك، من هنا أحد من ألّف كتاباً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهداه في الصفحة الأولى فقال: يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك.
أيها الإخوة؛ القداسة الطهر، والله عز وجل لا يقبلك إلا إذا كنت طاهراً من الذنوب ومن العيوب معاً، نُقدس لك نُطهر أنفسنا كي تسمح لنا أن نتصل بك.
التقديس هو التوحيد والتوحيد أن تُفرد الله عز وجل في العبادة:
أيها الإخوة؛ لكن لو تعمقنا قليلاً التقديس هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، التوحيد أن تُفرده بالعبادة، أردف النبي خلفه سيدنا معاذ،
(( عن معاذ بن جبل: كنتُ رَدِيفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على حمارٍ، فقال لي: يا مُعاذُ، أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟ قُلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: حَقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا. ))
الموطن الدقيق في الحديث القسم الثاني: ((قال: هل تدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: حقُّ العباد على الله ألا يعذِّبهم)) أنشأ الله لك حقاً عليه.
من لم يقبل الله دعوته يعذبه في الدنيا والآخرة:
لذلك الإمام الشافعي-رحمه الله تعالى-استنبط من الآية الكريمة كيف أن الله ردّ على هؤلاء الذين قالوا:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)﴾
ردّ الله عليهم فقال: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ استنبط الإمام الشافعي أن الله عز وجل لو قَبِل دعواهم أنهم أحبابه لما عَذّبهم، لأنه يعذبهم لم يقبل دعواهم، إذا قال المسلمون: نحن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، إذا قالوا: نحن:
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾
الرد الإلهي جاهز: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ لأنه يُعَذبنا بذنوبنا لم يقبل دعوانا.
ما دامت سنت النبي مطبقة في حياة المسلمين فهم في مأمن من عذاب الله:
من هنا أيها الإخوة؛ يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾
الآية واضحة جداً في حياة النبي، هم في بحبوحة في حياته، لكن ما معنى الآية بعد وفاته؟ قال علماء التفسير: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ إذا كانت سنتك مطبقة في حياتهم، في بيوتهم، في أعمالهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في حلهم، في ترحالهم، في سِلمهم، في حربهم، ما دامت سنتك مطبقة في حياتهم هم في مأمن من عذاب الله، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وإذا استغفروا هم في بحبوحة أيضاً، فنحن إذاً في بحبوحتين، بل في أمنين من الله عز وجل، الأمن الأول أن نطبق سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والأمن الثاني أن نستغفر، فإذا ما طبقنا سنته، ولم نستغفر إذاً نحن مُعَرضون لعذاب لا يعلمه إلا الله.
إذاً التقديس هو التوحيد، التوحيد أن تُفرِده بالعبادة، وأن تُفرِده بذاته، وبصفاته، وبأفعاله، أي:
﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)﴾
أي هو أحد، هذه أحديته، أن تُفرِده بالعبادة، وأن تُفرِده بذاته، وبصفاته، وبأفعاله بمعنى قوله تعالى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ هذا معنى الأحدية، فالتقديس هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، والتقديس أيضاً إفراده بالوحدانية، بالوحدانية شيء، وبالأحدية شيء آخر، بالوحدانية أي لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا شريك له هو واحد، لا مثيل له هو أحد، فالله عز وجل واحد أحد، فرد صمد:
(( عن محجن بن الأدرع: سمع رجلًا يقول في تشهُّدِه: اللهم إني أسألُكَ يا اللهُ الواحدُ الأحدُ الصمدُ، الذي لم يلد ولم يُولد، ولم يكن لهُ كُفُوًا أحدٌ أن تغفرَ لي ذنوبي، إنك أنتَ الغفورُ الرحيمُ فقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قد غُفِرَ لهُ قد غُفِرَ له. ))
[ أخرجه أبو داود: خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح ]
من تقديس الله أن تُفَصّل في إثبات الكمالات له وأن تنفي عنه كل ما لا يليق به:
أيها الإخوة؛ التقديس نفي واثبات، يجب أن تنفي عنه كل ما لا يليق به، لكن النفي يجب أن يكون مُجملاً، أي مستحيل أن تمدح ملكاً وأن تقول: هو لا يكذب، ولا يرتكب فاحشة، وليس لئيماً، وليس بخيلاً، التفصيل في النفي لا يليق بذات الله عز وجل، مُنزّه عن العيوب، أما التفصيل في الإثبات وارد، هو رحمن رحيم، غفور رحيم، واحد أحد، فرد صمد، كبير متعال، عدل، يجب أن تُفَصّل في إثبات الكمالات له، ويجب أن تُجمل في نفي العيوب عنه، هذا من التقديس، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ .
القلب السليم لا يشتهي شهوة لا ترضي الله ولا يُصدق خبراً يتناقض مع وحي الله:
أيها الإخوة؛ كل واحد منا يُنظّف مركبته، لأن هذه المركبة يراها الناس، يُنظِّف بيته، إذا جاء الضيف البيت نظيف، أحياناً يُعطّره، يُنظف جسمه، يُنظف ثيابه، ثيابك، وبيتك، ومحلك التجاري، ومركبتك هي منظر الخلق، الناس ينظرون إليك، وإلى ثيابك، وإلى بيتك، وإلى طلاء البيت، وإلى أثاث البيت، وإلى مركبتك، فالإنسان يُطهر منظر الخلق، ورد في بعض الآثار القدسية أن يا عبدي طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة؟ ما هو منظر الله عز وجل؟ هو قلبك،
(( عن أبي هريرة: إِنَّ الله لا ينظرُ إِلى صوركم وأَموالكم، ولكن ينظر إِلى قلوبكم وأعمالكم. ))
لذلك:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
والقلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، ولا يُصدِّق خبراً يتناقض مع وحي الله، ولا يعبد غير الله، ولا يحتكم إلا لله.
أحياناً الإنسان بذكائه، هذه القضية لا تُحلّ عند المشايخ، تُحلّ في القضاء، يقول لك: نحن بلد يوجد قانون، ويوجد قضاء، لأنه عند رجال الدين ليس لها حل، بالحاسة السادسة يكتشف أن هذه القضية لا تُحلّ بالقانون، معه عقد إيجار، والمستأجر محمي، يأتي لعند المشايخ: سيدي أليس هذا حقي؟ هو جالس ببيت صلاته لا تجوز، لماذا في موضوع معين احتكمت إلى القضاء وفي موضوع آخر احتكمت إلى العلماء؟ أنت مع مصلحتك ولست مع الحق.
أحياناً امرأة محجبة في بلد غربي إذا نشب خلاف بينها وبين زوجها ترفع الأمر لا إلى القاضي المسلم في المركز الإسلامي، لأنها إذا رفعت قضيتها له يحكم لها بالمهر فقط، أما إذا رفعت قضيتها في بلد غربي إلى قاض غربي يحكم لها بنصف أملاك زوجها، فهذا الحجاب لا يتناسب مع الاحتكام لغير الله، ﴿يَومَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ القلب السليم الذي لا يشتهي شهوة لا تُرضي الله، ولا يُصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، ولا يعبد غير الله، ولا يحتكم إلا لشرع الله.
الله تعالى مُطَهر عن كل صفات الكمال البشري:
أيها الإخوة؛ الآن يوجد معنى آخر: القدوس هو المُطهر عن كل صفات الكمال البشري، أحياناً يتوهم الإنسان أن الله كالأب، هو مُنَزّه عن ذلك، كالقاضي العدل، لا، مُنزّه عن ذلك، الإنسان بحسب ثقافته، بحسب علاقاته، يتصور العدل بقاضٍ، والرحمة بأب، فإذا أراد أن يُنَزّه الله عز وجل، وأن يُقَدسه ينسب له صفات الكمال البشري، فقال العلماء: الله عز وجل قدوس أي مُنَزّه عن صفات الكمال البشري.
لذلك قالوا: كل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك، هو مُطَهّر عن صفات الكمال البشري، أي كلمة منتقم بالإنسان لا ترتاح لها، لكن المنتقم من أسماء الله الحسنى يوقف الجبارين عند حدهم، يُريح الناس منهم، إذا مات العبد الفاجر:
(( عن أبي قتادة الحارث بن ربعي: أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ. ))
منتقم الله عز وجل، هناك طغاة لا يوجد حلّ لإنهاء طغيانهم إلا بالموت، وسبحان من قهر عباده بالموت، فالمنتقم بحق الإنسان قد لا ترتاح لهذه الصفة، أما بحقّ الواحد الديان الرحمة كلها في انتقام الله عز وجل.
معرفة الإنسان بالله ليست مطلقة لأنه لا يعرف الله إلا الله:
لذلك قالوا: لا يعرف الله إلا الله، حتى الأنبياء، حتى سيد الأنبياء والمرسلين معرفتهم بالله ليست مطلقة، نسبية، أعرف الخلق بالله رسول الله، لكن الله لا يعرفه إلا الله، من أروع ما قرأت عن تفسير قوله تعالى:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
أن النبي عليه الصلاة والسلام كلما أقبل على الله رأى رؤية جديدة، فاستحيا من رؤيته السابقة، إذا إنسان مليء مالياً، أنت توهمت معه مئة مليون، ثم اكتشفت معه ألف مليون مثلاً، أنت كنت قيّمته على مئة مليون، فوجئت أنه يملك مبلغاً كبيراً جداً، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ كلما أقبل النبي على الله كشف عن جانب من كمالاته لم يكن يعرفها من قبل.
لذلك من أدق معاني الله أكبر: أكبر مما عرفت، طبعاً أكبر من كل شيء بديهي، لكن بأرقى معاني هذه الكلمة الله أكبر مما عرفت، كلما تعمقت في معرفة الله يجب أن تقول: الله أكبر، لكن هناك تعليق لطيف: إذا كان الله عز وجل مُنزّهاً عن صفات الكمال البشري فلأن يكون مُنزّهاً عن عيوب البشر من باب أولى.
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
شخص أراد أن يُذاكر عالماً، هو عالم، قال له: ألا تشتاق إلا الله؟ قال له: والله لا أشتاق له، قال له: كيف؟! قال له: متى غاب عني حتى أشتاق إليه؟!
أيها الإخوة؛ النقطة الدقيقة أن أصل الدين معرفة الله، إن عرفته تفانيت في طاعته، أما إذا عرفت أمره ولم تعرفه تفننت في التفلت من الأمر.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق